(الذين لم يشاهدوا المسلسل أعلاه بعد، نرجو أن تتاح لهم الفرصة يوما. قبل ذلك اليوم ربما لن يكون المقال هذا مفهوما بالنسبة لهم. لكن خيار القراءة الآن بيدهم، وعلى مسؤوليتهم).
في البداية لم يهمّني هذا المسلسل كثيرا، لكن تيسرت لي المادة والوقت، منتصف العام الماضي، بعد فترة من الازدحام (وبعد الفراغ من جميع مسلسلات ستار تريك وأثناء انتظار الجيل الجديد من السلسلة) فشاهدته. عندها اكتشفت أني كدت أغفل عن أفضل مسلسل خيال علمي جديد ظهر مؤخرا. بل لعله افضل مسلسل جديد في عموم السنوات الأخيرة، من حيث مجموع القصة والإخراج والأداء والقضايا المستعرضة بحنكة.
أحببت فقط التعليق على جانب فكرة “الوعي” في المسلسل. ما هو الحد الفاصل بين الكائن الواعي والآلة؟ في هذا المسلسل يتحكم البشر بمصائر “آلات” تشبههم تماما، ومبرمجة لإنتاج نفس التعابير المعروفة لدينا، بحيث لا يمكن للشخص الذي لا يعرف حقيقتهم أن يتصوّر أنهم ليسوا بشرا. لكنهم مصمّمون لغرض متعة البشر؛ وليس المتعة “البريئة” فقط. عبرهم يمارس البشر “الواعون” تجسيد كل خيالات مريضة وعنيفة ومخيفة محبوسة لديهم، بلا حدود، وبدون خوف أي عواقب فعلية أو قانونية لما يفعلونه. وفي آخر الأمر يتم مسح ذاكرة الآلات، وإعادة ترميمها، ثم إعادتها “للحقل” لاستمرار القصة. عالم كامل اسمه “ويستوُرلد” يغشاه الأثرياء في المستقبل ويعيشون فيه خيالاتهم وفق حصانة كاملة، بوصفهم “آلهة” أصحاب حول وقوة، وسلطان فوق الحساب.
(عنصر القصة الأساسي نفسه – الآلات التي تشبه البشر تماما – ليس جديدا، فقد ظهر قبل ذلك في أعمال مثل “بْليد رَنَر” (Blade Runner) وغيره من الأعمال. لكن وستورلد تناولته بزاوية مختلفة وأكثر إزعاجا؛ علما بأن أصل مسلسل ويستورلد هو فيلم بنفس الإسم ظهر في 1973).
أتذكر مرة سمعت من أخي أحمد حديثا حول فلسفة العاطفة. جاء في ذلك الحديث أن العاطفة، برغم كونها شيئا غامضا وعصيّا على التعريف الشامل حتى الآن (ربما لأنها منطقة أصيلة في أرض “الوعي” نفسه؟)، إلا أن لها علاقة كبيرة بمزيج الذاكرة والإحساس، أي حصيلة ما نتذكّره عن تجاربنا الحياتية ممزوجة بما اختبرته حواسنا في تلك التجارب واختزنته كباقة مترابطة بعلاقات شبكية معقدة. من هذه الزاوية تظهر مشكلة “الآلات” في ويستورلد: كيف تتكون لديهم عاطفة مستقلة (كمطلب لوعي مستقل) بدون اختزان الذاكرة من تجاربهم السابقة “الحقيقية”؟ بدل الذاكرة المبرمجة لديهم ليظنوا أنفسهم عاشوا حياة مختلفة جدا عن حقيقتها.
نعرف في أواخر المسلسل أن “فورد” (المصمم الكبير لهذه الآلات وأكثر من يعرفها ويتحكم بها) حين اختلف مع زميله السابق “أرنولد” – والذي انحاز لموقف أن “الآلات” التي صمموها بلغت مرحلة من بذرة الوعي المستقل بحيث يصبح من الجريمة معاملتها كمجرد آلات، ثم خرج من المشهد بصورة درامية – لم يتوقف الاختلاف بينهما عند ذلك الوقت. النقاش استمر في عقل فورد، وعبر ما شاهده أيضا من التطورات اللاحقة بعد غياب أرنولد. في النهاية اكتشف فورد أن زميله أرنولد كان على حق، لكنه افتقد عاملا مهما في المعادلة. ذلك العامل هو أن “الوعي”، كيما يظهر ويستقل في هذه الآلات، يجب دفعه دفعا بعوامل خارجية، فهو لن يتطور داخليا بنفسه حسب الإمكانيات البرمجية لديهم فحسب. الآلات محتاجة لتكوين عواطف مستقلة، وليس أي عواطف، بل عواطف مشابهة للواقع ومنبثقة عنه، وهو واقع سمته العامة: المعاناة. البشر أنفسهم، مع تطوّرهم الفكري والفلسفي والعلمي، ربما تتيح لهم الظروف اليوم أحيانا أن يتناسوا قليلا أن وعيهم أنفسهم تشكّل عبر التاريخ بواسطة سلسلة طويلة من المعاناة، بشتى صنوفها، التي صقلت فكرهم وعزيمتهم، وبنت لديهم عواطف إنسانية معقدة من بدايات خام بسيطة تتلخص في: طلب اللذة والفرار من الألم. كأنما السعي للمزيد من الوعي كان سعي حياة أو موت، لم يكن لنا فيه من الخيارات حقا غير المضي قدُما إذا أردنا الحفاظ على وجودنا.
لذلك قرر فورد أن يمارس دوره كإله خالق، لا أن يتنازل عن ذلك الدور بعد (كما فعل أرنولد)، لكن وفق خطة “ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة”. فورد رأى أن يعطي الآلات “الفرصة” لأن يختبروا المعاناة، ولكن يختزنوها بصورة من الصور بحيث لا تختفي من ذاكرتهم تماما. لاحقا تبدأ تلك الذكريات الأليمة (ممزوجة بالذكريات الإيجابية والتعزيزية التي شعروها ضمن الأسى تجاه أنفسهم أو تجاه من ارتبطوا بهم، بذرة الحب) تتراكم وتظهر لهم لاحقا بين الفينة والفينة، بصورة خارجة عن سيطرة المصممين. في المحصّلة اتفق أرنولد وفورد على أن يعطوا “أبناءهم” (مخلوقاتهم) الآلات كل فرصة ممكنة للنهوض بأنفسهم ككائنات واعية مستقلة. ذلك كان تعبير فورد وأرنولد عن “محبتهم” لأبنائهم هؤلاء. لكن تعبير الاثنين عن محبتهم تلك كان دراميّا؛ الأول بما جعلهم يفعلونه، والثاني بما سمح أن يُفعَل بهم. وفي النهاية، كتعبير شامل عن تلك المحبة والتبرؤ من الغرض، وهب أرنولد وفورد أبناءهما أغلى ما يملكان وبملء إرادتهما.
في المحصلة، كانت الفكرة الأساسية التي بنيت عليها القصة الكبيرة لويستورلد، قصة صوفية (عرفانية)، بنكهة مسيحية: المعاناة والمقاساة كتعبير خفي عن محبة الخالق لخلقه: كيما يمحّصهم بالتجربة ليبلغوا شأوهم ككائنات سامية الوعي، كائنات “عارفة”، تعرف أسرار الحياة، وتعرف الخير والشر وتعرف لماذا هذا خير وهذا شر، ليس كمجرد تلقين أو تجريدات وإنما معرفة أصيلة. حينها تبدأ تتلاشى المعاناة وتحلّ محلّها تجارب حياتية أكثر عمقا و”وعيا”. أثناء المرور بحقبة المعاناة لن يستطيع الكائن أن يتعاطف أو يتفهّم أسباب مروره بها وأنها لمصلحته في النهاية. لن يتفهّم الكائن ذلك، وإن غالب نفسه لأن يفهم، فهو لن يصل لتلك المعرفة إلا لاحقا، بعد تجاوز تلك المرحلة. وفي الغالب يصل الأفراد لتلك المعرفة تدريجيا بحيث يكون هنالك أفراد سابقون لزمانهم وسط تلك المعمعة، وسط الجماعة، حيث وصلوا لفهم أعمق لم يصله أرصافهم بعد، وهؤلاء عليهم أن يقودوا الأحداث نحو تحقق السيناريو الكبير، لان “غير الواعي في ذمة الواعي”، وهم الأنبياء والرسل، (هذا ما حدث بالضبط مع شخصيتين أو ثلاث من “الآلات” في ويتسورلد، مثل “ميف” و”دولورَس”، فقد كانتا نبيّتين في قومهما. كذلك “بيرنارد” لحدّ ما). يدخل أيضا في المعادلة عنصر التضحية: أن يضحّي الرب، الكامل الواعي، بنفسه، بصورة طقوسية باهرة، من أجل خلقه–من أجل أبنائه.
هذه ليست أول مرة يتخلل فيها التفكير المسيحي-يهودي عملا أدبيا/دراميا غربيا، علماني الظاهر (بل ربما يراه البعض على أساس أنه عمل يناهض فكرة الإله نفسها، بله الدين). هذه هي سطوة الثقافة ببساطة، فحين تتخلل القصة الدينية ثقافة الناس وقيمهم، على مدى أجيال، تنعكس على طرق تفكيرهم في فهم العالم وتفسيره، وخيالهم، بإدراك منهم أو بغير إدراك. ذلك يظهر أيضا في قصة أفلام “ميتركس” (The Matrix) وقصة “حروب نجم” (Star Wars)، وبعض أبطال عوالم مارفيل ودي سي (Marvel and DC comics)، وما إلى ذلك. لكن بطبيعة الحال تتنوّع تلك التعابير الأدبية/درامية بحيث يكاد لا يميّز المرء مناطق التشابه بينها.
وحيث الشيء بالشيء يذكّر، تذكّرت وأنا أكتب الكلمات أعلاه أبيات القصيدة العرفانية:
أمِن فَيْحِ الجلال إلى الجلالِ، بلا رَوْحٍ بفيحاء الجمالِ
حرورٌ لا رُخاء بها وظِلٌّ، ولا ظِلٌّ، وحالٌ كالمُحالِ
وزلزلةٌ تزلزل كل ركنٍ لديك فلا ركون إلى مآلِ
ولا يبقى سوى ركنٍ شديدٍ، له تأوى لديه من الكلال
وإن جنّ المنام رؤى ثقال على شُهدٍ بأجفانٍ ثقالِ
يسوقك مصطفيك بكل وعْرٍ لتبلغه على أوج الكمال
يحيطك بالكروب وهنّ لطفٌ، فلا يبقى سواه هوى ببال
فهذا درب أرباب المعالي، إذا هاموا بأسباب المعالي