“المسافرون” (Travelers) قصة خيال علمي مرتبطة بالسفر عبر الزمن، لكن طريقة ذلك السفر وأسبابه مختلفة عن المعتاد.
بحلول القرن الرابع والعشرين، يصبح كوكب الأرض غير صالح للحياة عموما، فتموت جل الحيوانات ويتدهور الغلاف الجوي بحيث لا يعود من الممكن للكائنات الحية أن تعيش في العراء في الطبيعة، فلا سبيل إلا للعيش داخل ملاجئ صناعية عالية التكنولوجيا، توفّر مناخات صناعية وتغذية وإدارة كافية لإبقاء الناس على قيد الحياة لكن وفق شروط تعيسة. الحياة في الكوكب تصير بائسة جدا، وعدد البشر يتقلّص كثيرا ويعيشون في تلك الملاجئ الضخمة الموزعة في مناطق حول الكوكب وبتوتّر عام بينها، وعموما فالحياة في الكوكب ماضية في اتجاه الانقراض إذ لا أمل في المستقبل. ذلك التدهور البيئي أخذ بضعة قرون ليصل لتلك الحالة المظلمة، وأثّرت فيه ظواهر بيئية (مستقلة) وعسكرية واقتصادية واستهلاكية (بشرية) متداخلة، لكن يمكن عموما رصد بدايات ذلك التدهور إلى القرن الواحد والعشرين، حيث توفّر البشر على معرفة كافية بالتغيّر المناخي ومضاره المتوقعة كما توفّروا على معرفة كافية بعواقب التسلّح العالي والتخندقات السياسية والجشع الاقتصادي، لكن اختار الأغلبية – خصوصا من هم في السلطة وكذلك الديماقوجيون – أن لا يفعلوا شيئا حقيقيا تجاه تلك المشاكل، فتفاقمت واحتدت، وتوالت الأحداث إلى أن تصل لما هي عليه في القرن الرابع والعشرين.
لكن بحلول ذلك المستقبل تتقدم البشريّة تكنولوجيّا بصورة كبيرة، حوالي أضعاف المرحلة التكنولوجية الحالية، في الهندسة والطب والطاقة والبرمجة والنانوتكنولوجيا، إلخ (لكن تكنولوجيا الفضاء لا تسمح بعد بالسفر واستعمار الكواكب الأخرى). ومع هذا التطوّر التكنولوجي يتطوّر الذكاء الصناعي ليصبح ذا قدرات حوسبية وتحليلية ونمذجية هائلة، جعلت أكبر حاسوب في ذلك الزمن أقدر على فحص وترتيب كافة معلومات البشر، التاريخية والحاضرة، واتخاذ القرارات ورسم السيناريوهات المعقّدة، وفق موجّهات برمجية عامة يضعها البشر.
تبدأ المغامرة الكبرى حين تم اختراق علمي عبر ميكانيكا الكم (خصوصا ظاهرة التشابك الكمومي) يجعل من الممكن، بدقة متناهية، السفر عبر الزمن، ولكن ليس بالجسد وإنما بنقل وعي فرد من الحاضر إلى جسد شخص في الماضي، مرة واحدة وغير مزدوجة. مع هذا الاختراق يقوم البشر في المستقبل بوضع خطة كبيرة (grand plan) بقيادة سلطة موحّدة (“المدير”)، بهدف إرسال أعداد معيّنة، ومدرّبة، من أهل المستقبل إلى الماضي لإحداث تغييرات كافية في مسار التاريخ تنأى عن الوصول للبؤس الذي وصلت له البشرية في القرن الرابع والعشرين. عملية نقل الوعي عملية معقدة، وتحتاج معرفة عالية بدقائق الزمن واللحظات والتفاصيل الأخرى، ولذلك ليس بالإمكان السفر إلى ما قبل عهد الكومبيوترات المعقدة (لأن المدير يحتاج للبيانات الكثيرة التي صارت متوفرة في ذلك العهد، والتي تم حفظها مع الزمن حتى وصلت للقرن الرابع والعشرين)؛ إضافة لذلك تم اختيار القرن الواحد والعشرين لعمليات العودة هذه لأنه القرن الذي بدأت فيه تحولات التدهور الكبرى.
يتطوّع عدد من البشر المستقبليين لهذه المهمة الضخمة، مهمة إنقاذ الكوكب من الهلاك المحتوم الذي رأوا وجهته بأعينهم. يتم تدريبهم على مهارات عالية ومعيّنة، ويسافرون للقرن الواحد والعشرين، رحلات بتذاكر اتجاه واحد، لإحداث التغييرات الممكنة، على أمل أن ما يفعلونه في الماضي سينتهي بمستقبل مختلف عن الذي تركوه.
هنالك بعض المعالم العامة: أولا لا يتم أخذ “مضيف” (أي جسد الشخص من القرن الواحد العشرين) إلا إذا كانت البيانات التاريخية تفيد بأن ذلك الشخص كان سيموت فعليا في نفس الوقت العام لنقل الوعي، وذلك حتى لا تكون عملية النقل عبارة عن جريمة قتل لذلك الشخص (فالمدير يعمل وفق مبدأ الامتناع عن إيذاء أي بشري، قدر الإمكان، وحفظ الحياة عموما، وعدم التدخل في هذا المنوال إلا في حالات قصوى)؛ وبعد أن يحدث نقل الوعي (وفي تلك الحالة يكون “المسافر” نفس الشخص من المستقبل في جسد شخص من الحاضر) ينبغي أن يتماهى المسافر أو المسافرة تماما في حياة ذلك الشخص، أي أن يكون هو، حتى لا يثير أي شكوك مزعجة أو يحدث تحوّلات غير محسوبة في مجرى التاريخ؛ ويسمى ذلك بالغطاء. كذلك يعمل المسافرون في شكل فُرُق (أتيام)، بحيث يشتمل كل فريق على مهندس وطبيب ومؤرخ وخبير حربي، وقائد؛ والمؤرخون هؤلاء مدرّبون تدريبا خاصا لرفع قدراتهم على تذكر كل المعلومات التي يستقبلونها وعلى ربط تفاصيل الأحداث التاريخية بالمستقبلية والتعامل مع البيانات الضخمة والمعقدة. وبسبب اطّلاع المدير على كافة البيانات المتوفرة من القرن الواحد والعشرين فهو يستطيع التواصل المحدود مع المسافرين عبر قنوات معيّنة باستخدام بعض خواص التشابك الكمومي.
وهنالك قواعد عامة يلتزم بها جميع المسافرين، هي: (1) المهمة تأتي أولا (وتعني طاعة أوامر المدير مهما كانت)؛ (2) لا تعرض غطاءك للكشف في كل الأحوال (وإضافة، بالنسبة للمؤرخين، لا يجوز لهم إخطار بقية المسافرين بأي تحديثات تاريخية تحصل في الخط الزمني جراء تدخلهم – إذ بعض المؤرخين يتلقون تحديثات دورية في ذلك الشأن)؛ (3) لا تقتل أي نفس، ولا تنقذ حياة أي نفسٍ معروف تاريخيا أنها ستموت في حادثة معيّنة، ولا يجوز التدخل في هذه القاعدة إلا إذا كانت المهمة الموكلة تتضمن ذلك (القاعدة 1)؛ (4) لا يجوز للمسافرين إنجاب الأطفال (عبر التناسل مع الآخرين في الماضي أو بين أنفسهم)؛ (5) في الفترات ما بين المهام، على كل مسافر أن يعيش حياة “مضيفه” بعموم تفاصيلها ويحفظ حياته وغطاءه؛ و(6) يُمنَع التواصل مع أتيام المسافرين الآخرين إلا إذا جاءت تعليمات ومهام تتطلب ذلك.
تمضي أحداث المسلسل بالتدريج بعد ذلك، من تفاصيل السفر، والمهام، وكيفية محاولة المسافرين التأقلم مع السياق الجديد، ومع حيوات مضيفيهم، وصعوبات المحافظة على الغطاء مع أولوية تنفيذ المهام بأي ثمن، والتعقيدات الفلسفية والعاطفية والأخلاقية التي تتراكم مع تعقّد الحبكة وتفاصيلها ومآلاتها. تم عرض المسلسل في ثلاثة مواسم بين 2016 و2018، وحصل على تقييمات عالية من المشاهدين والناقدين سويّا (حصل على تقييم 100% في موسمه الأول، في موقع “روتن توميتوز”) باعتبار أنه يخلط خلطا شيّقا بين مساحات الخيال العلمي والحبكات البوليسية وتعقيدات العلاقات الإنسانية.
بالنسبة لي، فالملاحظ فيه كعرض خيال علمي كندي – خصوصا بالمقارنة مع عروض الخيال العلمي الأمريكية (ورغم أن هذا المسلسل “كندي أمريكي” من الناحية الإجرائية إلا أنه كندي في صناعته العامة بشكل واضح) – أربع خصائص:
- خاصية أولى: عروض الخيال العلمي الكندية لا تحب سردية البطل، أو الأبطال، الخارقين، أصحاب المواقف الصحيحة عموما والتي تجعل المشاهدين يتماهون معهم على طول الخط كبوصلات للقرار وكمنقذين للأحداث الحرجة. بنفس القدر، لا تحب العروض الكندية سردية الشرير، أو الأشرار (أو “الإرهابيين”) الذين لا يمكن فهم مواقفهم أو التعاطف معهم بأي حال. في العروض الكندية يمكن أحيانا للمشاهد أن يتعاطف مع خصم أو خصوم الشخصيات المحورية بدون أن يخسر تسلسل الأحداث وارتباطه بالقصة عموما.
- خاصية ثانية: النهايات الحاسمة، والمعارك الحاسمة، والنتائج المتوقعة مسبقا، سرديات مستهلكة وغير نظيفة أو وفيّة لتعقيد العمل الفني، أو هكذا يبدو أن العروض الكندية تقول.
- خاصية ثالثة: الخلط المستمر بين الوتيرة العادية ووتيرة الذروة؛ وبين “الآكشن” والدراما؛ وبين الكوميديا والتراجيديا. كذلك الدمج بين الرواية الكبيرة (story arc) والقصص الصغيرة التي تبدو مستقلة في الحلقات ثم تتراكم وتساهم في مخرجات الرواية الكبيرة.
- خاصية رابعة: تنوّع الخلفيّات الثقافية والإثنية للشخصيات المهمة في العرض (مع الأغلبية الأوروبية البيضاء بالتأكيد)، والإصرار على أن الإناث يمكنهن أن يكنّ ضعيفات وقويّات، قاسيات ولطيفات، مكروهات ومحبوبات، صادقات وماكرات، ماهرات وهزيلات، معقّدات وبسيطات، وقائدات ومقودات، تماما كما الذكور. وفي تمثيل هذا التنوّع في الإنتاج الإعلامي عموما فالكنديون يبدون أكثر ارتياحا وسلاسة في هذا المضمار من الأمريكان (فهوليوود كثيرا ما تبدو وكأنها تؤدي فروضا معيّنة تجاه واجب التنوّع الثقافي وما إليه لكن ليس بأريحية، أما الإنتاج الكندي فعلى العموم يفعل ذلك بأداء غير متكلّف وغير غامض).