نقدّم هنا نبذة مختصرة عن عالم “ستارتريك” (Star Trek) – العنوان الذي يمكن ترجمته إلى “رحلة النجوم” – وسمّيناه بالعالم لأنه أحد أقدم وأوسع سلاسل عروض الخيال العلمي، إذ يمتد منذ ستينات القرن الماضي وحتى اليوم، ويشمل مسلسلات وأفلام وروايات وألعاب فيديو، وموسوعة تصاميم (فنيّة/جمالية وهندسية)، إلخ. ولعالم ستارتريك شعبية قوية واحترام كبير في الأوساط النيردية (سنرى أدناه لماذا).
تجري أحداث عالم ستارتريك عموما في مستقبل البشر ما بعد الحرب العالمية الثالثة وقرابة دمار جميع الحضارة البشرية، ثم ما جرى بعد ذلك من محاولات لامركزية في تطويرات تكنولوجية بمجهودات غير جماعية أدت إلى أن يخترع أول بشري مركبة فضائية بقدرة محدودة على السفر أسرع من الضوء. بمجرد تحقيق البشر لهذا الفتح العلمي التكنولوجي، اتضح لهم أن مجرة درب التبانة مليئة بكائنات وحضارات متنوعة جدا، وعدد كبير منها متفوق حضاريا بصورة كبيرة على البشر، لكنهم اختاروا أن لا يتدخلوا في شؤون كوكب الأرض على الإطلاق قبل الآن لأن هنالك قاعدة عامة اتفقت عليها تلك الشعوب المجرّية المتقدمة بأن لا يتدخلوا في أحداث أي كوكب لم يحقق بعد تكنولوجيا السفر أسرع من الضوء، إذ تلك التكنولوجيا هي الحد الأدنى الذي يجعل أهل ذلك الكوكب مؤهلين لأن يبدأوا في التواصل مع الحضارات المجرّية الأخرى (أي الحضارات الأخرى داخل مجرة درب التبانة)، أو حتى ليصبح لهم أثر يلفت الانتباه.
بمجرد تحقيق تلك التكنولوجيا بواسطة بشري، جرت زيارة معلنة للأرض من شعب متقدم وغير أرضي، وساعدوا البشر بعد ذلك في تحسين أوضاعهم ولم شتات الدمار والتشرذم الذي حصل بعد الحرب العالمية الثالثة، وخلال 20 عاما تقريبا من تاريخ تلك الزيارة (والتي تمت تسميتها في التاريخ الأرضي بحادثة الاتصال الأول) استطاع البشر، وبمساعدة من أصدقائهم الجدد، التخلص من جميع مشاكلهم الكبرى: الجوع والفقر والوباءات والحروب، وجرى تطوير شامل في الأنظمة الاقتصادية والسياسية بحيث توحّدت جميع شعوب الكوكب بصورة عادلة وندية وانتهت أنواع التمييز العنصري والجنسي والعقائدي والثقافي، إذ اتضح للبشر بما لا يدع فرصة للشك أنهم فعلا جنس واحد من هذا الكوكب كما هنالك أجناس في الكواكب الأخرى، فاكتشاف أن هنالك آخرون في هذا الكون، أقدم منا وأعقل منا، جعلنا ننظر لأنفسنا ونتجاوز كل تلك الظنون والأوهام حول فوارقنا بين بعضنا. بعد ذلك التفت البشر لتطوير أنفسهم في مجالات المعرفة الواسعة: العلوم والتكنولوجيا والفلسفة والكونيات، وتطوروا كثيرا، وبدأوا بالسفر حول الكون ولقاء تلك الحضارات المجرّية الأخرى الصديقة في كواكبها، كما تلقوا منها زيارات لكوكب الأرض. انضم كوكب الأرض أيضا إلى فدرالية الربعية ألفا، وهي فدارالية كواكب وشعوب هذه المنطقة من مجرة درب التبانة التي يقع فيها كوكب الأرض.
بعد ذلك لم تنته جميع مشاكل البشر، فقط صعدت إلى مستويات أخرى تماما. اكتشف البشر أن هنالك ما زالت حروب ونزاعات سلطة، وفق قيم مختلفة، وتنافسات في العلوم والتكنولوجيا المتقدمة جدا، بين مجموعات كبيرة داخل المجرة. مثلا فدرالية الربعية ألفا ليست السلطة الوحيدة في المجرة، فهناك مناطق أخرى من المجرة، في ربعيات بيتا وجاما ودلتا مثلا، فيها أنظمة سلطة أخرى، وبين هذه والفدرالية تحالفات أحيانا وتبادلات أحيانا وعداوات وحروب أحيانا أخرى. البشر دخلوا في تلك المعمعة من جديد ولكن ضمن شروط مختلفة جدا عن معمعتهم السابقة التي كانت محصورة في كوكب الأرض فيما بينهم فقط. وهنالك في هذه المعمعمة الجديدة أحداث تراجيدية وأهوال كبيرة كما هنالك انتصارات وأحداث إيجابية، لكن جميع الشعوب منخرطة في عملية طويلة وديناميكية جدا من التطور الداخلي والخارجي والمغامرات وصراعات البقاء والتطور الذي لا يحده حد.
هنالك أيضا تنوع عجيب في تقانات ومعارف وأِشكال الشعوب المجرّية الأخرى، وفروق كبيرة في قدراتها وخواصها وتواريخها، وحتى مكوّنات الحياة فيها (فهنالك مثلا كائنات من طاقة فقط بدون أجساد، وهنالك كائنات في ضخامة الشموس والسحب الكونية ولكنها حية لأنها واعية بنفسها ويمكن التواصل معها، بل وهنالك أيضا حالات زيارات من شعوب متقدمة جدا من المجرات الأخرى). أيضا هنالك تنوّع في الكائنات المجرّية ذات الأساسيات الجينية المشتركة مع البشر، فبينهم تشابهات كبيرة مع البشر مع اختلافات أيضا في المظهر والخواص، إلخ. أدرك البشر لاحقا أنه كان هنالك شعب قديم جدا في المجرة قام بعملية هندسة جينية بعيدة المدى جعلته يتوزع في كواكب كثيرة في المجرة ويندمج مع تراكيبها هناك عبر حقب طويلة من التطور، فظهرت النتيجة في تلك الشعوب المتنوعة التي تتشابه لحد ما في هيئاتها الشبيهة بهيئة البشر ولكنها متوائمة أيضا مع خصائص كواكبها المتباينة وتراكيبها البيولوجية والكيميائية.
ما يجعل ستارتريك عرضا أسطوريا جاذبا للكثير من الناس ليس فقط السرد العام أعلاه للصورة العامة لمحيط الأحداث التي تجري داخلها القصة الكبيرة، بل لأن ستار تريك ومنذ وقت بعيد (بداياته في النصف الأخير من الستينات) استمر في إدماج آخر ما توصلت له الفتوحات البشرية الحديثة، في العلوم والتكنولوجيا والكونيات والفلسفات والمفاهيم، ضمن أحداثه وقصصه وشخصياته الكثيرة والمتنوعة جدا. في حالات غير قليلة أيضا تمكن مبدعو ستارتريك من التنبؤ ببعض جوانب مستقبل العلوم والتكنولوجيا؛ مثل الآلات الكبيرة والصغيرة، فالهواتف المحمولة والشاشات الذكية وتقانات أخرى ظهرت في ستار تريك قبل أن تظهر في عالمنا الواقعي بفترة (وفي الغالب ألهمت بعضها)، وكذلك بعض المسائل العلمية المعقدة في الكونيات (مثل الثقوب السوداء ومفهوم رابط الزمان والمكان والطاقة في الفيزياء الحديثة، إلخ) تمكنت سلسلة ستار تريك من تقريبها للمشاهدين بنجاح باهر ومصداقية غير بسيطة.
في سردها الخيالي للأحداث والظواهر لم تتجاهل ستارتريك حقائق العلوم الطبيعية التي نعرفها الآن بل تجاوبت معها وجعلتها جزءً لا يتجزأ من قصصها (وذلك ما يجعل ستارتريك من أقوى عوالم الخيال العلمي وأكثرها أصالة). أيضا فإن الخيال في ستارتري نافذة إلى التأمل في الواقع المعاصر، ففي السلسلة تناول لقضايا فلسفية وأخلاقية ووجودية عميقة ومعقدة (وسياسية واقتصادية وثقافية كذلك) تشغل أحوال البشر الآن؛ وهو تناول موفّق لدرجة كبيرة.
اشتهرت أيضا ستار تريك بأن الشخصيات المشهورة والمحبوبة فيها متنوعة إثنيا، ومنذ بداياتها (حيث كان العالم وقتها أقل استيعابا وتشجيعا للتنوّع الإثني) خصوصا في الشخصيات المحورية للسلسلة، وكذلك التنوّع الجندري وسط تلك الشخصيات. كل هذا جعل ستارتريك من عوالم الخيال العلمي المتقدمة حقا على زمانها، حسيا ومعنويا.