الضرائب والضرائب

من الأشياء المثيرة للاهتمام، في المعمعة الكوكبية في السنوات الأخيرة، أن هنالك أطروحات اقتصادية سياسية صارت تجد توافقا كبيرا، ومؤسسا وموضوعيا، بين الاشتراكيين والرأسماليين معا.

إحدى أكبر تلك الأطروحات، والتي نجد حاليا الكثير من الاقتصاديين وصانعي السياسات والدارسين (scholars) يؤيدونها ويدفعون بها كأجندة أساسية في المجال العام، سواء أكانوا رأسماليين أو اشتراكيين أو “بين بين” او “لبراليين اجتماعيين”، أطروحة رفع الضرائب التصاعدية على الأثرياء، وبالذات على رؤوس أموال الأثرياء (سواء أكانوا شخصيات حقيقية أو اعتبارية/قانونية كالشركات الكبرى)، مع تعميم هذه الأطروحة إقليميا وعالميا نظرا لترابط الاقتصاد العالمي (العولمي) بشكل غير مسبوق في التاريخ ونظرا لكثرة حركة رأس المال وقفزه من بلد لآخر – بدون أي اعتبار لعواقب ذلك القفز على اقتصاد المجتمعات – كلّما تغيّرت السياسات الاقتصادية عبر الحدود. هذه الأطروحة حاليا يروّج لها اقتصاديون رأسماليون مشاهير (مثل توما بيكيتي) واشتراكيون كذلك (مثل يانِس فاروفاكِس) وسياسيّون “بين بين” (مثل بيرني ساندرز) ودارسو سياسات قريبين للّبرالية الاجتماعية (مثل ماريانا مازوكاتو)، وخلف هؤلاء جموع من أصحاب الرأي وأصحاب التأثير وأصحاب الحشد.

والأسطورة اللبرالية المتواترة التي تقول إن الدول النامية لا ينبغي لها رفع ضرائبها حتى لا تنفّر القطاع الخاص، صارت تتلاشى (وهي أسطورة لأنها كخلاصة ارتبطت بتجارب معيّنة في ظروف معيّنة لا تجتاز امتحان القابلية للتعميم). لأنه حتى الكثير من الأعمال الخاصة صارت تفضّل بيئة العمل ذات القوانين والسوق الملائمة والمنضبطة للإنتاج والاستهلاك وإن كانت الضرائب عالية نسبيا على أن تكون في بيئات عمل غير مستقرة ومليئة بالبيروقراطية والفساد وإن كانت ضرائبها ضئيلة نسبيا. يضاف لذلك أن الضرائب التي تُستَعمل عوائدها في تحسين البنية التحتية ودخول الآخرين تشجّع لاحقا على رفع استهلاك السلع الاستراتيجية، الأمر الذي بدوره يساعد في ازدهار الأعمال الخاصة المتعلقة بتلك السلع. ومعظم الأعمال الخاصة التي تفضّل الضرائب العالية على ضعف بيئة العمل إنما هي الأعمال صغيرة ومتوسطة الحجم، لأن الأعمال الكبيرة (وخاصة الشركات العابرة للحدود) لديها من التمدد العالمي والفائض ما يجعلها تتواءم مع أوضاع ضعف الاستقرار عن طريق دفع الغرامات والرشوات بحيث أن أرباحها تغطي تلك وتزيد). فإذا عرفنا أن الأعمال الصغيرة والمتوسطة [الخاصة] هي الأكثر تأثيرا إيجابيا على الاقتصادات المحلية (عبر زيادة فرص العمل – فهي صاحبة أعلى نسبة في توظيف القوى العاملة في كثير من البلدان –  وعبر تحريك السوق المحلي للسلع والخدمات وسلاسل القيمة، وغبر تشجيع توطين التكنولوجيا)، فنحن أمام فرص أكثر استدامة إذا جعلنا أولوياتنا واضحة.

والضرائب في أي دولة من دول العالم ليست شأنا اقتصاديا فحسب، بل شأن سياسي كذلك. تحديد الضرائب ومقاربتها، وطريقة توزيعها وتدويرها، إلخ، كل هذه قرارات وممارسات اقتصاد/سياسية، لأنه في المجال العام، وكما قال بيكيتي، ليس هنالك “علم اقتصاد كلّي” في الواقع، إنما هنالك “اقتصاد سياسي”.

توضيحات

والضرائب لا يمكن أن تحوّل طبقة غنية/قادرة إلى طبقة فقيرة، لأن الضرائب تؤخذ أصلا من نسبة الثروة/الدخل، وهي نسبة محسوبة. إذا قلّت ثروة أي فرد أو مجموعة فنسبة الضرائب تقل تباعا، وبلذلك فهي لا تستنفد ثروة أحد. الضرائب ليست كمصادرة الأملاك.

أيضا فالضرائب على رؤوس الأموال (الأرض، الأملاك، الاستثمارات، إلخ) ليست كالضرائب على الدخول. هذا نظامان ضريبيّان متباينان. ضرائب رؤوس الأموال يكون رصدها وحسابها مختلفا عن ضرائب الدخول، فنّيا وحسابيّا، وبالتالي فقرارات الدولة حول كل منهما تتباين (والقرارات الضريبية في أي بلد ليست قرارات اقتصادية بحتة، بل فيها حسابات سياسية واجتماعية واضحة ودائمة).

الحجة العامة ضد الضرائب على الأغنياء ومتوسطي الدخل هي أن الضرائب ستضعف الاستهلاك وتحريك الاقتصاد، وكذلك ستضعف عملية خلق الوظائف. هذه الحجة معممة جدا وينبغي دوما وضعها في سياق مفهوم حتى يمكن استبانتها. على سبيل المثال، فبينما متوسطو الدخل قد يقل مستوى استهلاكهم بعض الشيء إذا ارتفعت ضرائبهم إلا أن بعض أسس استهلاكهم لا تتغيّر، في حين الضرائب عليهم يمكنها تشجيع استهلاك الأفقر منهم – عن طريق توفير مصادر وأجور حد أدنى لهم – وتحركهم في الاقتصاد بحيث يرفعون من معدل الاستهلاك العام في المجتمع. ايضا فالأغنياء عادة لا تتغيّر عاداتهم الاستهلاكية بسبب الضرائب وإنما تتغيّر مسارات استثمارهم – خصوصا على مستوى الشركات – والتي غالبا ما يكون سعيها في مراكمة ثروتهم وليس المزيد من الاستهلاك أو حتى توفير المزيد من فرص العمل للآخرين بالضرورة. ده تلخيص عام طبعا وهنالك تفاصيل واستثناءات متعددة، تستحق التناول في ظرفها (وليس بالتعميم القائل إن رفع الضرائب على الأغنياء يضر بيئة الاستثمار وسوق العمل). علاوة على أن تقديرات الغنى والفقر في المجتمعات قد تتفاوت، فالبلد الذي أغلبية سكانه تحت خط الفقر العالمي لا يمكن أن تضع لها سياسات ضريبية تشبه البلد عالي الدخل. في بلدان متعددة غنية واقتصادها حيوي جدا رغم أنه ضرائبها عالية على الأغنياء (على الاملاك والدخل كذلك).

وكما قال توما بيكيتي، صاحب أحد أهم كتب الاقتصاد الحديثة، “رأس المال في القرن الحادي والعشرين: “هنالك طريقتان أساسيتان تموّل الحكومة نفسها عبرهما: الضرائب والديون. عموما، الضرائب تُعدّ الخيار الأفضل من الديون، من منظور العدالة والفاعلية…. من منظور المصلحة العامة، الأفضل عادة فرض ضرائب على الأثرياء [والقادرين] بدل الاقتراض منهم.”

أضف تعليق