الدوْر والميزان، ومايو والطائفية: الجمهوريون بين الوعي والسلطة

(1) الدوْر

للإنصاف، هنالك مسألة في تاريخ الحركة الجمهورية تقود إلى “شوشرة” بين الناس بخصوص تفسير بعض مواقف تلك الحركة في المجال العام. تلك المسألة هي أن الجمهوريين، في سني حركتهم الأولى، اختاروا الاستمرار في صورة حزب سياسي، أي التسجيل تنظيميا كحزب سياسي. وفي العادة، حين يرى عموم الناس أنهم ينظرون لتاريخ حزب فإنهم ينظرون لتحركاته ويحسبوها ”فعل كذا لماذا وتصرف هكذا لماذا” باعتبار أن وجهة الأحزاب عموما هي محاولة الوصول للسلطة السياسية في الدولة. أعتقد أن هذا الوضع يجعل الكثير من الناس يقرأون تحركات الحركة الجمهورية بهذا المنظار، باعتباره بديهي ما دمنا نتحدث عن تاريخ حزب سياسي.

لكن، الحزب الجمهوري كان من الأحزاب البسيطة في التاريخ الحديث التي كانت قد أعلنت أنها غير ساعية للسلطة، ولا حتى للتمثيل في السلطة. أحزاب بسيطة جدا، في العالم، تعلن موقفا كهذا، ولملابسات سياقية تتعلق ببيئتها وأهدافها وبرامجها. في الواقع، يمكننا أن نقول إن الحركة الجمهورية كانت حركة اجتماعية-ثقافية،[1] اتخذت المظهر الرسمي للحزب (لملابسات سياقية)، ومن ضمن أنشطتها أن تناولت قضايا السياسة من باب رفد الحراك الاجتماعي والثقافي والنقد الفلسفي، والمواقف المبدئية، وليس من باب علاقات القوى ومقاولات القوى كما تصنع الأحزاب السياسية عادة. الأستاذ محمود محمد طه، والجمهوريون، كانوا واضحين مرارا في أن السلطة ليست شغلهم حاليا، وإنما العمل الأفقي (القاعدي؟) في “تنزيل الفكرة للواقع أو رفع الواقع للفكرة”. طه، بصورة متواترة، قال إننا حاليا ليس لدينا أي اتجاه للسلطة أو المشاركة فيها، أو حتى التعاون مع أجهزة الدولة أو الحكومة بصورة مباشرة، أيّا كانت، وليس عندنا طموحات في الموارد غير تمويلنا الذاتي هذا وهو كافي بالنسبة لنا، وإنما وجهتنا هي تناول القضايا الكبرى (ومن ثم لمس مسائل السياسة المباشرة حينما تكون هنالك حاجة لذلك).

ولم يكن هذا الموقف زهدا رومانسيا في السلطة، لأن المدرسة الجمهورية مدركة لدور السلطة وهياكل السلطة – بشتى أنماطها الحديثة – في التغيير الاجتماعي والتحوّل التنموي وخدمة مصالح الناس، وإنجاز المشاريع الحضارية عموما، لكن المدرسة تضع دور السلطة هذا في موضعه ولا تقدّم العربة على الحصان، فالرؤى الجديدة الكبيرة تحتاج لمرحلة تأسيسية أولا ومرحلة حضانة اجتماعية ثانيا، وكلتا المرحلتين ليست مرحلة توسل بالسلطة، خصوصا السلطة الهرمية. عليه كان الزهد في السلطة، وما زال، لأنه كان واضحا أن المدرسة (الفكرة) الجمهورية لم تستقر وسط الناس بعد، وهذا كان الهدف الأول، لأن بقية المآلات تتبع له وليس العكس. بالنسبة للمدرسة الجمهورية، وكما قال مؤسسها، الأستاذ محمود محمد طه، ليس هنالك سبيل للسلطة بغير اقتناع أغلبية الشعب بقدرة المدرسة الجمهورية، فكريا وأخلاقيا، على تقديم حلول حقيقية لمشاكل الناس، على الأصعدة المتنوعة، وإلا فما عندنا أصلا طمع في السلطة لذاتها وما عندنا طموح لامتيازاتها.

هذه المسألة تثير بلبلةً لقارئ التاريخ المعتاد على قراءة مواقف الأحزاب من نافذة المصالح وموازنات القوى، فيقول بداهة: إذا الجمهوريون تمرحلوا في موقفهم من نظام مايو العسكري في السودان (1969-1985)، وإذا ناهضوا قانون الخفاض  الاستعماري، أو لم يتخذوا موقف العداء الحاسم تجاه إسرائيل ولكن انتقدوا التأسيس الاسرائيلي والموقف القومي العربي ودعوا للتمرحل الاستراتيجي، فإن تفسير هذه المواقف يعود لحسابات سياسية في هذه القضايا، إذن هنالك مصالح ما، إلخ. هذا التفسير تقتضيه العادة بخصوص مواقف الأحزاب السياسية، ولذلك قد لا يلام البعضُ حين يتجهون له تلقائيا للوهلة الأولى. لكن بعد استدراك أن الحركة الجمهورية لم تكن ساعية للسلطة، لا قولا ولا عملا، تنبغي مراجعة ذلك التفسير.

يضاف لذلك، أن المدرسة الجمهورية مليئة بالمسائل الغريبة على معظم الناس (والغرابة لا تعني التعقيد بالضرورة، إنما قد تعني الاختلاف الكبير عن المألوف، بما يثير ريبة العقل الجمعي بصورة تلقائية، وازدياد فرص الانطباع الخاطئ ودواعي التشويه)، ولا مشاحة، بل لعل في غرابتها بذرة قدرتها (أو طاقتها الوضعية) على إحداث تغيير حقيقي في الواقع العام، إذا توفرت لها الفرصة. والغرابة ليست مقصودة لذاتها، لكن، وكما قال الأستاذ محمود، “الناس ألفوا الباطل حتى ظنوه الحق.” وعلى العموم، فربما ليست هنالك حركة معاصرة، في المنطقة، حاليا تركّز على الأداء الداخلي لمنتسبيها، أكثر بكثير من الأداء الخارجي أو المكاسب الخارجية المحتملة، مثل الحركة الجمهورية؛ وفي ذلك فهي إن كانت غير نافعة للمجال العام (كما يرى البعض) فهي غالبا لن تكون ضارة له لأنها ستكون قليلة الأثر المباشر نظرا لبعدها عن نزاعات السلطة واستقطاباتها.[2]

……..

[الورقة كاملة – 20 صفحة – متوفرة بالضغط هنا]


[1] سميّناها “حركة اجتماعية-ثقافية” باعتبار ما يلى المجال العام للناس، ولكن طبعا عمادها الدين، بأطروحة مذهبية جديدة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة ومتشربة للتراث والمساق العرفاني (التصوفي). ونحن نسمي تلك المذهبية “المدرسة الجمهورية”.

[2] النأي بالنفس عن نزاعات السلطة واستقطاباتها ديدن ملموس في تاريخ الحركة الجمهورية، أي تنظير وتطبيق، وصحيح أنه مربوط بسياقاته (أي ليس أبديّا) لكن دواعيه ما زالت قائمة لحظة كتابة هذه السطور، وفي المستقبل المنظور، لذلك فهو معيار قائم، لكن بطبيعة الحال لا يؤكد أن جميع من انتسبوا للمدرسة الجمهورية سيلتزمونه، أو هم الآن ملتزمين به، وهذا مكيال آخر، فلا توجد مدرسة فكرية أو حركة اجتماعية في التاريخ قاطبة استطاعت أن تضمن أن جميع المنتسبين لها يلتزموا بمبادئها دوما، بيد أنه في تلك الحالات يمكن إقامة الحجة عليهم من داخل مدارسهم نفسها.

 

رأي واحد حول “الدوْر والميزان، ومايو والطائفية: الجمهوريون بين الوعي والسلطة”

  1. سلام يازول يا شاطر
    انا متكيف منك لانك خلقت منبر جيد وراق عموما انا يشرفني صداقتك والتراسل بيناتنا …
    انا توفيق متخرج علوم سياسية في جامعة الخرطوم وعندي اهتمامات بس مشتركة معاك

    رد

أضف تعليق