حقبة سيادة الكنيسة في أوروبا كانت فيها معالم تُعتِبر إيجابية، فقد ازدهرت في تلك الحقبة مهارات ومعارف المعمار، والفنون التشكيلية كالرسم والنحت، وتطورت معارف الزراعة وهندساتها وكذلك الري، وقد شجّعت الكنيسة تحصيل المعارف التاريخية والطبيعية والكتابة والانضباط في التوثيق والحفاظ على الوثائق، كما طوّرت نظم لوجستية للنقل والمواصلات والمراسلات، واهتمت كذلك بصناعات الحديد وبتطوير النجارة، إلخ. واستمر عهد الإقطاع تحت السيادة الملكية في كل أولئك بجانب التوسع أكثر في التعليم وفي توفير منح للمتفرغين للدراسات النظرية وقواعد الإدارة والفنون بأنواعها، وفي تلك الفترة حصلت بعض التطورات الطبية والفلسفية والصناعية والتجارية والزراعية، إلخ. ومع استقرار النظم الإقطاعية صار النبلاء يهتمون أكثر بأوضاع الفلاحين العامة في أراضيهم بصورة أفضل من الماضي (نسبيا). يضاف لذلك فإن تلك الحقبة في أوروبا اهتمت بالاستمرارية الحضارية للقارة مع العهد الروماني، فلم تنبذ كل ما هو روماني بل تبنّت الكثير منه وبنت عليه. بالنسبة لسيرورة التاريخ، ليس هنالك شيء غريب في هذه السردية. والحق أن هذا شيء ملموس جدا في الحضارة الغربية كلها اليوم، فبعد قرون من تجاوز تلك الحقبة ما زالت الأعمال السينمائية، والروايات الأدبية، والرموز الثقافية والكنايات اللغوية، تخصص حصة ضخمة لتلك الحقبة، وتعيد إنتاجها جيلا وراء جيل رغم تطور التكنولوجيا وتقدم العلوم وتحوّل الأنماط الاجتماعية بفارق شاسع. يكفي كمثال على ذلك أن قائمة كبيرة من أكثر المسلسلات والافلام الهوليودية شعبية، وألعاب الكمبيوتر، والروايات الحديثة، مستندة على تلك الحقبة بشكل شامل وواضح.
ويليام دوبويز، أحد أبرز أهل الجيل الأول من الافروعمومية، وأهم دينامو محرك للتنظيم والتضامن الافروعمومي – فكريا وسياسيا – على نطاق عابر للقارات، كان أحيانا يتحدث عن ثقافة الجنوب الامريكي – ابان عهد الرق وما تلاه من فترة التمييز العنصري – أنها ثقافة تهتم بدماثة الأخلاق والأدب في التعامل بين الناس ولا تخلو من خصائص حسن الضيافة والبساطة. كان يقول مثل ذلك الكلام في معرض ردّه ونقده للعنصرية وعلاقات الإنتاج الاستغلالية القاسية في الولايات المتحدة الامريكية وقتها وخاصة الجنوب. حتى اليوم، في الولايات المتحدة، هنالك ما يُعرَف بالسلوكيات الجنوبية (southern manners) وهي في العموم صفة إيجابية ولطيفة، أن يقال لأحدهم أن لديك سلوكيات جنوبية، ذلك مع أن الجنوب الامريكي ما زال حتى اليوم من أكثر بقاع الشمال الكوكبي عنصرية.
عهد القياصرة الروس كان عهدا كوّنت فيه روسيا هوّيتها الثقافية وبنت لنفسها كرامة وسط بقية الممالك الاوروبية، وتبلورت فيه قوة روسيا وسمعتها العسكرية الجيدة وكذلك تواصلها تجاريا وسياسيا مع بقية أوروبا بندّية، ورغم أن البلد ما قبل الثورة الروسية كانت مجملا ذات اقتصاد زراعي وقوتها الاقتصادية والتكنولوجية أقل من جيرانها الأوروبيين الآخرين بصورة مشهودة، إلا أنه كانت بها صناعات وكانت بها مؤسسات حديثة وحراك فكري وأدبي وعلمي متواصل مع بقية أوروبا، وكان البعض يتوسم خيرا في أن القيصرية الروسية ستحقق مع الزمن تقدما في المستويين الاقتصادي والاجتماعي لتلحق ببقية أوروبا.
وفي الهند تنوّعت الممالك الهندية القديمة، ولكل واحدة فيها مساهمات مشهودة حتى اليوم، فالتطور المعماري الذي جرى في سلطنة مغول الهند (ذات القاعدة الإسلامية) وتطورات الإنتاج ونظم الإدارة والنقل فيها، ما زالت مشهودة في الهند الحديثة، ونفس الشيء يقال عن الامبراطورية الماروية في الهند والتي لها معظم الفضل في ازدهار وانتشار البوذية (مثلما للدولة الرومانية المتأخرة الفضل في ازدهار وانتشار المسيحية).
(وكأحد أهم المفكرين الاشتراكيين، لم يقم كارل ماركس بمهاجمة الرأسمالية بصورة سافرة ولا توازن فيها؛ بل كذلك سجّل إعجابه بها في نواحي كثيرة، وبيّن أفضليّتها التاريخية في عصرها وما أنجزته من اختراقات مهمة، وقد جادل بأنها أكثر نظام منتج شهده التاريخ البشري حتى الآن.)
وحتى اليوم، هنالك نسخ بديلة من التاريخ، تعتقنها وتتوارثها مجموعات قليلة، تقول إن تلك الأنماط التاريخية القديمة لم تكن سيئة أو جامدة في مجملها وإنما كانت متحركة في اتجاه التطور مع المزيد من التمدد، وفي اتجاه المزيد من المشاركة في الخيرات وتوسيع دائرة الامتيازات مع أغلبية الشعب؛ وتقول تلك السرديات كذلك إن الثورات العلمية ليست مرتبطة كثيرا بالثورات السياسية-اجتماعية وتحولات السلطة الاقتصادية التي جرت معها، فنيوتن وأمثاله كانوا منتجين ومبدعين بدون الحاجة لثورات اجتماعية، وكذلك ديكارت وغيرهم من العلماء الذين أحدثوا نقلات كبيرة في العلوم والرياضيات والمنطق في تلك العهود السابقة للرأسمالية والعولمة ومفاهيم اللبرالية. تقول تلك السرديات إن تلك الأنماط القديمة مظلومة اليوم، ويتم تصوير سلبياتها بشكل تضخيمي، مثل محاكم التفتيش والاستغلال الإقطاعي وقسوة نظام الرق وتخلف القيصرية، وبؤس الأغلبية في كل تلك الأنماط، ومثل وصفها بأنها كأنماط كان لا بد من الثورة عليها من أجل تحقيق ما يشبه النقلات الاقتصادية والتكنولوجية والمعرفية والفكرية الحديثة. هذه السرديات تختلف عن السرديات السائدة عادة، لكنها ليست سرديات جذرية أو ثورية؛ هي سرديات عائدة للوراء، وإن كانت تزعم لنفسها غير ذلك.
إذن فالتاريخ ليس لديه عجب من هذه الأشياء. ما من رأي يمكن أن تراه شاذا وغريبا اليوم – ليس فقط كمنظور جديد وإنما أيضا كمنظور قديم – إلا وستجد له موافقين. والسبب في ذلك أنه يصعب أن تجد باطلا مطلقا في أي نمط قديم أو حقا مطلقا في أي نمط جديد. “الحقيقة بين بين”، وساعة الحائط حتى لو كانت متوقفة تماما فهي ستكون مضبوطة وصحيحة مرتين كل يوم، كما جرى التعبير.
الذي يمكن أن نستوعبه، ونستخلصه من مناقشة التاريخ، هو أن الأنماط القديمة تساهم وتلعب أدوارا مهمة في دفع عجلة التطور الاجتماعي والمعرفي للأمام، مقارنة بالأنماط الأقدم منها، ثم تبدأ تلك الأنماط في التصدع، عن طريق تناقضاتها الداخلية، حتى تصبح تلك التنافضات صارخة ومهيئة للانفجار، من جوانب عدّة، فتكون إشارات لاستنفادها غرضها التاريخي (انتهاء مدة صلاحيتها)، وتظهر في نفس الوقت رؤى متجاوزة لها وتتصور أنماطا جديدة ممكنة متقدمة عليها، فتبدأ مراحل الانتقال، حيث يتداخل موات القديم مع مخاض الجديد، وهي مراحل صعبة، مليئة بالبلبلة والعثرات والاشتباكات والمفاجآت غير السارة، أو غير المحتملة، لكثيرين. لكن اليوم، لنا أن نتصوّر إذا ما كان نظام الإقطاع ونظام تجارة الرق عبر الأطلنطي ما زالا قائمين، أو الحقبة الميركانتلية في الاقتصاد السياسي ما زالت مسيطرة، أو أنماط وقواعد الحياة الثقافية والعلاقات الاجتماعية من القرون الوسطي ما زالت هي السارية حتى اليوم، ولنا أن نتصور كل ذلك فيما يخص تاريخ هذا الجزء من العالم، لا التاريخ الأوروبي. الراجح والأقرب للشواهد والعقل أن تلك الأنماط القديمة انتهت وتم تجاوزها لأنها “خدمت غرضها حتى استنفدته” فلم تعد مناسبة للمرحلة التاريخية اللاحقة، إذ احتشاد القوى الاجتماعية والمعرفية صار زائدا على طاقة استيعابها.
لا توجد أمة تبني جديدها بغير الاشتغال على طينة الماضي وتشكيل شيء جديد منها، مع إضافة مضامين وطموحات جديدة، آتية من المستقبل المُتخيّل بقوة (قوة التخيّل والانجذاب للأمام — قوى المستقبل). صحيح مثلا أن الحضارة الغربية المعاصرة لم تمرق تماما من حوضها الثقافي المسيحي-يهودي، لكنها لم تواصل العوم فيه كما هو، بل غيّرت تصميمه بصورة شاملة. بينما بقي الميراث المسيحي-يهودي ماثلا، ومنطويا في جنبات المفاهيم والقيم والرموز السائدة في الغرب، تم تجاوز أسس التقليد الكَنَسي والملكي، والتصور الكنسي للأشياء، تجاوزا شاملا، نظريا وعمليا، جعل الكثير من الكتب المتراكمة حول التاريخ الكنسي والمعارف والفقه التي بنتها وأجازتها الكنيسة طيلة الحقب الماضية ليست تراثا فاعلا اليوم بل مكانه المتاحف والدراسات التاريخية، ولم يدخل منه للحقبة الجديدة إلا بعض الخلاصات العامة، غير التفصيلية، وحتى هذه دخلت بعد تمحيص وإعادة تشكيل. فإن كانت هنالك مساعي لإحداث نقلة في مجتمعاتنا نحن، في هذا الجزء من العالم – والتي لها حوض أو أحواض ثقافية تاريخية مختلفة عن تلك التي لأوروبا – فليس من الضرورة أن تكون نقلة تشبه ما جرى في الغرب، لكننا كذلك لا يمكننا أن نتجاهل أن هنالك خصائص تاريخية مشتركة عالميا تتعلق بمراحل الانتقال من الأنماط القديمة للجديدة، يمكن قراءتها في أوروبا كما يمكن قراءتها في آسيا وإفريقيا، وغيرهم؛ يضاف إلى ذلك أننا إذا أردنا أن نحدث نقلات محلية عندنا فلا يمكننا أن نستشهد بالنقلة الأوروبية في الاحتفاظ بملامح حوضها الثقافي إذا كنّا نقصد الحديث عن نقلة تراكمية فحسب في مجتمعاتنا، أي نقلة تصطحب كل القديم معها وبتفاصيله (متنه وحواشيه واجتهاداته، إلخ)، فنقلة أوروبا لم تكن كذلك، إنما كانت أكبر أثرا، ولا يجدي الاستشهاد بها إلا في مستواها.
فإذا كنّا نتفق على الأقل أننا في مرحلة انتقال من الأنماط القديمة لأنماط جديدة، كما تشير كل المؤشرات – و”لا يكن طرْفُك أعمى عن تناويع الأشاير” – فمن خلاصات التاريخ البشري العام نقول إن الدافعين بالرؤى الجديدة قد يبدو منهم التعثر أحيانا، وأكثر من مرة، ولكنه محمدة في مجمله، إذ هم لديهم فضيلة أنهم يتحركون في اتجاه بناء ما لم يكن موجودا من قبل، ولا بد لمثل ذلك المسعى أن يتعثّر هنا وهناك على أقل تقدير؛ كما إن الحارسين للأنماط والأشكال القديمة (بدعوى أنها ما زالت حاضنات مناسبة للراهن أو للتغيير الوئيد “الحكيم”) قد يبدو منهم مظهر الثقة، وبعض الدربة، ولكن ذلك لا فضيلة فيه، إذ هم غير مبتكرين بما يكفي ومترددون أكثر مما ينبغي (وإن بدوا غير ذلك) لأنهم لا يودّون التحرك فعلا من منطقة ارتياحهم (comfort zone)، فتجدهم يتحدثون عن التغيير لكن “برّاحة”، وتحت راية ورعاية نفس الوجوه والتمثيلات القديمة؛ وترجمة ذلك في الواقع أن لا تغيير حقيقي وإنما فقط بعض الشكليات، ربما…. تغيير لا يشعر به معظم أولو الشأن ولا يحصدوا منه مطامحهم الحقيقية. لكن قولة التاريخ الواضحة هي أن لا بديل للتغيير إلا من جنسه.
يقول فريدريك دوقلاس، الزنجي الذي حرّر نفسه من الرق، ثم صار مرافعا قويا عن حقوق الأقليات والمستضعفين (وليس الزنوج والمسترقّين فحسب) وكاتبا وخطيبا امتلك ناصية اللغة الانكليزية بصورة فائقة واستعمل قدراته في تحريك الساكن ومواجهة السلطة بالحقيقة (speaking truth to power): “إن لم يكن هنالك نضال لا يكون هنالك تقدّم. أولئك الذين يزعمون أنهم يفضّلون الحرية لكن لا يحبّون الاستفزاز [استفزاز السلطة والقوى التقليدية] إنما هم أناس يؤيدون المحاصيل بدون حرث؛ يريدون المطر بدون رعد وبرق؛ يريدون المحيط بدون هديره. هذا النضال قد يكون أخلاقيا، أو ماديا، أو كليهما؛ لكنه لا يبد أن يكون نضالا.” وقيل أيضا، “التاريخ يُقرأ للوراء لكن يُعاش للأمام.” والحديث ذو شجون….