كتب الأستاذ الدكتور نمر عثمان بشير مقالا قديرا، في الرد على الأطروحة التي قدمناها مؤخرا بعنوان “تأهيل منظومة البحوث والابتكار بالسودان: مجلس وطني للبحوث”، والبروف نمر ذو باع أكاديمي وإداري أعطاه من التجربة والخبرة ما يجعله يهتم بمثل هذه الأطروحة ويتفاعل معها، إيجابا أو نقدا، ولذلك حرصنا على توفير عرض الأطروحة له ليطّلع عليها ونستأنس برأيه. ولم يخيّب ظننا فله الشكر على الكتابة في هذا الموضوع، بصورة موضوعية ومحترمة وواضحة، لأنه بهذا إنما يدعم الاتجاه الذي نريده تماما: وهو فتح الباب للنقاش وتقليب جملة السيناريوهات والخيارات، لنرى ما لها وما عليها، ولنوثّق لعملية التفكير هذه ونسجّلها كنموذج للتفاكر في قضايا السياسات المسنودة على البراهين؛ وباعتبار القضية في أصلها قضية عامة وتخص المؤسسات العامة فإن نقاشها العلني من الصواب ومن الخير.*
نحن الآن بصدد التوسيع في دعم الأطروحة بالمزيد من البراهين، والتجارب المستفادة من دول أخرى، والتجارب المستفادة من داخل السودان كذلك. فقط يمكنني في هذه النافذة أن أشير إلى أن التعقيب على مقال الأستاذ نمر يقع على أربع نقاط:
(1)
النموذج الذي لدينا في السودان حاليا، والذي تتوزّع فيه منظمات البحوث والتكنولوجيا على الوزارات المعنية، نموذج معمول به في بعض الدول، فهو ليس شاذا للغاية. أيضا هنالك نماذج أخرى معمول بها في دول أخرى. بينما للسودان خصوصيته لكنه ليس من كوكب آخر وبالتالي فإن الدروس المستفادة والتحديات التي تواجه الوضع في السودان عندها تشابهات مع الأوضاع في بلدان اخرى. ما يمكن أن نقوله بثقة – وهي ثقة مبنية على دراسة الحالات المتعددة للدول وتواريخها – هو أن النموذج الذي لدينا في السودان من أكثر النماذج ضعفا في الإنتاجية والمردودية، ومن أكثرها مشاكلا، مقارنة بالنماذج الأخرى، ومع اعتبار العوامل المؤثرة الأخرى. على سبيل المثال فإن البلدان التي تجتمع فيها منظمات البحوث والتكنولوجيا تحت مجلس تنظيمي واحد (وهو مجلس غير مركزي ولا يلغي الاستقلالية المؤسسية لهذه المنظمات كما لا يلغي علاقاتها الاستراتيجية مع الوزارات المعنية إنما ينسّقها بشكل أفضل ومن مستوى قمة السلطة التنفيذية – مجلس الوزراء – أو عبر وزارة متخصصة في التنسيق) نجد أن منظماتها تخدم الوزارات فيها بصورة افضل ونجد أن التعاون بينها في المستوى العام أقوى، وذلك لأن هنالك معوقات هيكلية وإدارية تمّت إزالتها فجعلت معوقات التواصل أقل. لذلك فإن محاولة إصلاح الحال في السودان مع الإبقاء على الهيكل الحالي هي في الواقع مغامرة أخطر من محاولة تغيير الهيكل نفسه حتى نتخلص من المشاكل الموروثة فيه.
(2)
منظمات البحوث والتكنولوجيا (RTOs) منظمات متوفرة في جميع بلدان العالم اليوم، وهنالك منظمات عالمية معنيّة بها تحديدا (مثل منظمة “ويترو” WAITRO التابعة للأمم المتحدة والتي تضم شبكة من حوالي 680 منظمة من 80 دولة) كما هنالك شبكات عالمية وإقليمية تختص بشأنها (مثل منظمة إيرتو EARTO التي بدأت بالمنظمات الأوروبية وتوسعت شبكتها لتشمل دول أخرى متعددة من خارج أوروبا: حوالي 350 منظمة من 20 دولة). أيضا هنالك بحوث وأدبيات كثيرة أجريت حول هذه المنظمات تحديدا، والكثير من التوثيق لدورها في النهضات التكنولوجية (صناعية، زراعية، معلوماتية، إلخ) لبلدان العالم وخاصة البلدان التي انتقلت مؤخرا من الدخل المتدني إلى الدخل المتوسط أو العالي مع انتقالها من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي. إذن هذه ظاهرة كاملة، متكاملة، ومدروسة باستفاضة، ولذلك فهي أكبر من تجاربنا الشخصية حتى لو كانت ثرة ومهمة ومحترمة، كما أنها مجال بحثي ومعرفي واستراتيجي واسع، وأدبياته متوفرة، وهذا مما يقلّل مساحة الاعتماد على التجارب السياقية المحدودة في الخلاصات. في هذا المضمار بالذات، أتحدث من موقف باحث وممارِس قام ببحوث عن الموضوع، وعمل وتعامل مع منظمات بحوث وتكنولوجيا من حوالي 20 دولة في السنوات البضع الماضية (كثير من تلك الدول في افريقيا ومشاكلها مشابهة لمشاكلنا، وبعضها من دول صارت صناعية قريبا مثل ماليزيا، وبعضها من دول صناعية عالية مثل كندا وبريطانيا)، ثم اشتغل فيها بصورة أقرب، ونشر بحوثه عنها في القنوات البحثية والسياساتية المعتمدة. وهذا لا يجعل المرء صاحب القول الفصل في المسألة بالتأكيد لكنه يجعله مطّلعا على تجارب كثيرة متجاوزة لخبرته المباشرة فحسب ومتابعا لأسباب وتفاصيل نجاحها وفشلها بصورة قريبة ومدروسة.
(3)
نحن نعلم، من واقع الدراسة ومن واقع الأوضاع، أن هنالك فروقا هيكلية ووظيفية بين الجامعات، من جهة، وبين منظمات البحوث والتكنولوجيا من الجهة الأخرى، ثم هنالك تداخلات وتعاونات مهمة بين الاثنين في منظومة البحوث والابتكار (أو النظام الوطني للابتكار) في أي دولة أو إقليم. أيضا نعلم، من نفس الواقع، أن هنالك فروقا هيكلية ووظيفية بين مراكز البحوث المستضافة داخل جامعات (سواء أكانت جامعات عادية أو جامعات بحثية) وبين منظمات البحوث والتكنولوجيا والتي في مجملها ذات استقلالية عن المؤسسات الأكاديمية. لذلك من غير الصحيح ما ذكره الأستاذ نمر من أن 95% من الكتلة البحثية لمراكز البحوث في السودان مملوكة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، لأنه في هذا القول يخلط بين منظمات البحوث والتكنولوجيا وبين المراكز البحثية التابعة لجامعات (كما هو غير صحيح أن نقول إن منظمات البحوث والتكنولوجيا مملوكة للوزارات فهي ليست كإدارات داخل الوزارات وإنما لمعظمها استقلالية مالية وهيكلية بموجب قوانين إنشائها مع وجودها تحت إشراف وزراء حسب التخصص، وهذا يختلف عن ‘الملكية’ للوزارة كمؤسسة تنفيذية). أيضا لدينا توثيق تاريخي كافي حول تجارب الدول التي كانت مثل حال السودان اليوم، في الماضي، ثم هي الآن متقدمة صناعيا بما يفوق السودان بمراحل، ومن تلك التجارب أيضا نستطيع أن نرى الخيارات الاستراتيجية التي اتخذتها تلك الدول وجعلتها تتقدم السودان بخطوات واسعة بينما السودان ما زال يحاول داخل نفس الهياكل القديمة. ايضا نستطيع أن نختار أي التجارب أقرب لأن يستفيد منها السودان (فتجارب دول الخليج مثلا يصعب للسودان الاستفادة منها لأن معادلة المعطيات والموارد ونماذج الحوكمة مختلفة للغاية).
(4)
أهم شيء في عمليات التغيير الهيكلية، على المستويات الكبرى، هو إدراك وقت النقاش حول التغيير ووقت العمل من أجل التغيير. نوافذ التغيير في المؤسسات والهياكل الكبرى لا تتوفّر كثيرا في أعمار المجتمعات. الأطروحة التي طرحناها لا تطالب بالتغيير العاجل، لكن تفتح باب النقاش الجاد الآن، ثم نرى من ضمن النقاش نفسه أي الأوقات أفضل لإحداث تغييرات هيكلية مهمة. في نظرنا فإننا في السودان حاليا نمُرّ بنافذة تغيير نادرة، حيث أن هنالك سيولة وقدرة على التفكير المغاير للمعتاد لا تتوفر في جميع الأزمان. الدولة كلها، بشتى مؤسساتها، بحاجة لمراجعات هيكلية واسعة، وبحاجة لأن ندرك أن بعض المشاكل الموروثة حاليا ليست فقط إجرائية أو بسبب ضعف التواصل فحسب، بل هي مشاكل هيكلية ونموذجية، أي بحاجة للمراجعة على مستوى الهياكل والنماذج، وإلا فإن التغيير المنشود حتى لو كان إيجابيا لن يكون بما فيه الكفاية. وحين نتحدث حاليا عن أهمية التغيير الهيكلي في منظومة البحوث والابتكار فنحن لا نتوقّع أن بقية مؤسسات الدولة ينبغي أن تبقى كما هي كذلك، بل كلها بحاجة لمراجعات وتغييرات هيكلية، وهو أمرٌ ممكن ومطلوب…. نحن فقط هنا نتحدث فيما يلينا: منظمات البحوث والتكنولوجيا، وفي منابر أخرى نساهم مع المساهمين في المراجعات الحوكمية والهيكلية والسياساتية الأكثر شمولا.
——–
أكرر شكري للبروف نمر على هذا التفاعل مع الأطروحة، ومن المؤكد أن الكثير من النقاط التي ذكرها تحتاج منّا لفهم وتدبّر، ونظن أننا فعلا لا نستهين بها.
——–
*أدناه نوفّر وصلة لمحتوى الأطروحة التي انتقدها بروف نمر، كما نوفّر وصلات لبعض الأدبيات العلمية التي استندت عليها الأطروحة:
– أطروحة تأهيل منظومة البحوث والابتكار بالسودان
– ورقة محكّمة حول منظمات البحوث والتكنولوجيا ودورها المحوري
– كتاب محرر عن بناء نظم العلوم بأفريقيا
– كتيّب تدريبي حول سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار بأفريقيا