بين صفوة التعليم الاستعماري وتصفية الاستعمار

عبر مراجعة عامة وسريعة لحركات التحرر الوطني، وحركات مناهضة الاستعمار، في القرن العشرين بالذات (مع وجود حالات من القرن التاسع عشر وحالات متنامية من القرن الحادي والعشرين)، سنجد أن معظم روّاد وقيادات تلك الحركات – القيادات التنظيمية والميدانية والفكرية، وكذلك الكوادر الاستراتيجية – هم من أهل المستعمرات الذين تلقّوا تعليما وتدريبا غربيّا (أي تعليما استعماريا)، سواء أكان ذلك عن طريق الحصول على فرصة للسفر خارج بلدانهم للدراسة في عواصم الاستعمار (في أوروبا وأمريكا الشمالية) أو عن طريق الدراسة في بلدانهم في منشآت تعليم استعماري عالي كان هدفها الأساسي – أي هدف تلك المنشآت التعليمية الاستعمارية – إنتاج “أفندية” يعينون الطاقم الاستعماري، الإداري والفني، على أشغالهم بصورة أفضل.
 
أي شخص اليوم يريد أن يجري جردا عاما بهذا الشكل، من ذاكرته الشخصية، حول الأشخاص الذين يعتبرهم قيادات فكرية مناهضة للاستعمار وللفكر الاستعماري في بلده، أو في منطقته، يمكنه أن يفعل ذلك ويأتينا بقائمة الأشخاص هؤلاء–غالبا سنجد، مهما كان التوجّه الفكري لذلك الشخص، فإن قائمته ستتضمن الكثير من الذين تعلّموا تعليما استعماريا، بمنح دراسية وفّرها الاستعمار، سواء خارج بلادهم أو داخلها.
 
باختصار، هذا نموذج تاريخي موثّق وواسع لانقلاب السحر على الساحر، وهذه النقطة لم تفت على التوثيق والتحليل، فقد تناولها أملكار كابرال في أطروحته حول الانتحار الطبقي للبرجوازية الصغيرة المحلية في عملية التحرر الوطني، كما تناولها والتر رودني في تقصيه لتاريخ التنمية – أو تقويض التنمية – في افريقيا، منذ دخول الاوروبيين القارة من قرون وحتى خروجهم منها سياسيا في القرن العشرين. في كتابي “السلطة الخامسة” و”سعاة افريقيا”، تناولنا بصورة مسهبة كيف أن رودني وصل بتحليله إلى أن ثورات التحرر الوطني استفادت من التعليم الأوروبي ومن الفكر اليساري “رُغم الاستعمار” وليس وفق إرادته، وكذلك كيف توصّل كابرال، بالتدقيق والاستشهاد التاريخي، إلى أن عناصر البرجوازية الصغيرة المحلية، الذين يصلون لقناعات وقرارات التنازل عن وعودهم وامتيازاتهم الطبقية التلقائية، لينخرطوا في نضال التحرر الوطني الذي يتيح لهم أن يموتوا كطبقة ثم يولدوا من جديد كفئة وطنية حائزة على مهارات إدارة الدولة الحديثة (كغنيمة حرب من المستعمر)، هم أحد أهم العناصر في عملية تصفية الاستعمار واستعادة خط التاريخ المحلي مع اصطحاب مكتسبات الحداثة (باعتبارها مكتسبات إنسانية عالمية، تراكمت عبر التاريخ بمساهمات شتى الشعوب، وليست ماركة أوروبية مسجلة). ما قاله كابرال له صدى كذلك في أفكار نطق بها فرانز (إبراهيم) فانون نطقا موجزا – أثناء انخراطه في التنظير والعمل مع حركة التحرر الوطني في الجزائر – بيد أن كابرال أعطاها وضوحا وتوسّعا أكبر (وفق تنظيره وعمله هو كذلك في قيادة حركة التحرر الوطني في غينيا بيساو والرأس الأخضر).
 
ذكرنا كذلك أن العنصرين الأساسيين اللذين ميّزا الاستعمار الأوروبي عن مجمل أشكال الاحتلال والصراع السابق في التاريخ، هما: آلية الدولة العصرية (كأحد أعقد النظم الاجتماعية التي اخترعها البشر حتى اليوم) والتكنولوجيا الحديثة (كتراكم معرفة وخبرات بشرية انفجر انفجارة كبيرة في أوروبا في ما سُمّي بالثورة الصناعية، وما تلاها)، ثم أخذنا جانب الحجاج الذي يقول إن كلا هذين العنصرين مكسب إنساني مشروع للجميع، أي أن عناصر الفائدة فيه للناس والمجتمعات ليست حكرا للأوروبيين، بل هي تراكمات إنسانية يستحقها كل من يضع يده عليها (ثم قد يعيد تشكيلها على شاكلته حيثما يرى ذلك ممكنا ومشروعا). باختصار، هذه غنائم حرب.
 
لذلك، فمن السذاجة بمكان، أن يقوم اليوم نقاش، في القرن الحادي والعشرين، وفي عصر العولمة، وعصر المقاومة العالمية التضامنية ضد الامبريالية والاستعمار الجديد، وفي دهاليز الشبكة الاسفيرية (التي ربما تكون أكبر ناتج عولمي ملموس في حياتنا) حول أن مجرد استقبال فرص للدراسة في البلدان الصناعية، لعدد محدود من الطلاب الآتين من البلدان النامية، يُمكن أن يُنظّر له بعين الريبة واستعمال الأوصاف التي ينبغي توفيرها للحالات الجادة لأنها أوصاف جادة ولها تبعات جادة، مثل العمالة أو حتى السذاجة التي تضر المصالح الوطنية/المحلية.* (وطبعا فالعملاء موجودون دوما، وهم يتم تجنيدهم من بين السكان المحليين الذين لم يتلقوا تعليما خارجيا مثلما يتم تجنيدهم من بين الذين تلقوا ذلك التعليم؛ ويمكن التدليل على ذلك أيضا بجرد تاريخي بسيط).
 
عملية تصفية الاستعمار (decolonization) حاليا عملية قائمة بمجهودات وتضامنات عالمية، وأدبها أدب عالمي، ساهم فيه أناس يسكنون في البلدان النامية وفي البلدان الصناعية، في الجنوب الكوكبي وفي الشمال كذلك، وساهمت فيها حركات وفلسفات نبعت من منابع شتى حول العالم ثم اشتبكت، وتضامنت، وتوالفت، في خضم تراكمي ملحمي.
 
ذلك لأن تصفية الاستعمار حرب لا يمكن أن نستمر في خوضها إلا بكل ما نمسك به من غنائم الحرب، المعرفية والتكنولوجية والإدارية واللغوية، إلخ، بجانب أسلحتنا المحلية، بما يقودنا في النهاية لإلغاء كل أسباب تفوّق العدو ماديا واستراتيجيا وتسوية ميدان المعركة – والميدان هو الكوكب كله – وهذا أمرٌ يمضي على قدمٍ وساق حاليا ومنذ فترة، وهدفه الكبير ليس تخليص بلدان معيّنة من الاستغلال الأجنبي تحت أعلام بلدان معيّنة، بل تخليص كل المجموعات المُستغلّة والمقهورة من قبضة مستغلّيها وقاهريها، في كل البقاع، سواءٌ أكانوا أجانب أم محليّين، بسحنة مختلفة أم متشابهة…. وللحديث شجون.

*الإشارة هنا لجدل حصل في منصة فيسبوك، في الدوائر السودانية، في نهايات أغسطس 2022، حول المشروعية الأخلاقية قبول منح دراسات جامعية وعليا، وفرص تدريب منهجي، للشباب السوداني بواسطة جهات أجنبية معلومة. كان الجدل بخصوص مجرد قبول تلك المنح باعتبارها ليست سوى محاولات تجنيد لهؤلاء الشباب كيما يكونوا عيونا (أو حتى مشاريع عملاء) لتلك الجهات في السودان. 
 

أضف تعليق