ما زالت هنالك بركة: زاوية أخرى للأوساط المهنية

الأوساط البحثية والأكاديمية (مثل غيرها من الأوساط المهنية الكلاسيكية)فيها الكثير من التقاليد البالية، التي تحتاج لمراجعات؛ وفيها أيضا تقاليد محترمة وإيجابية، ومُجزية، وينبغي الاستزادة منها. 

من تلك التقاليد أن عددا مقدّرا من الباحثين ذوي الخبرة (نسبيا)، سواء في متوسط مشوارهم المهني أو في مراحل متقدمة منه، يستثمرون جزءا مقدّرا من وقتهم وجهدهم في دعم الباحثين الواعدين، أو الباحثين في بداية طريقهم. ورغم أن السياق قد يكون أحيانا مبنيّا على فوائد مباشرة متبادلة، لكنه في حالات ومناسبات متعددة يمكن أن يكون بدون تلك الفوائد المباشرة (لكن بالطبع له فوائد أخرى، سنذكرها بعد قليل). وفي العادة تكون تلك الحالات نتيجة أن الظروف جمعت هؤلاء بهؤلاء، ثم ظهرت لهم الاهتمامات المشتركة أو الشغف المشتركة، فيكون ذلك الاستثمار نوعا من التغذية المتبادلة التي يتم خلالها نقل معارف و/أو مهارات بصورة منسابة وإيجابية. 

عبر مشواري المهني، ونظرا للدرب البحثي النادر الذي اخترته (أي نادر في تنوّع وتداخل المجالات الكلاسيكية فيه)، مرّت فترات شعرت فيها بأني وحيد لدرجة كبيرة. لم أكن بالضرورة مستوحشا، لكن هنالك شعور بالغُربة وغياب “القبيلة” المعرفية التي يمكن الانتساب لها–خاصة وأن إحدى سمات الأوساط البحثية والأكاديمية المعاصرة انقسام الناس إلى قبائل ودوائر وتجمّعات متقاربة (مؤتمرات، دوريات، شبكات بحثية، مشاريع بحثية مشتركة، إلخ). شعور الوحدة ذلك كان يتقوّى عندما كان يصعب على المرء أن يحدد الدوائر والتجمعات التي تشبهه ولديه نفاذ لها، وعندما كان يصعب عليه كذلك أن يرى مسارات مهنية ناجحة (أي مستدامة ومثمرة) في تلك الظروف. 

لكن، في لحظات قراءة للأيام ببعض الصبر والتعمق، اكتشفت أني في الواقع كنت محظوظا لدرجة كبيرة، ففي أي مرحلة من مراحل تطوّري المهني كان هنالك في حياتي أشخاص أًصحاب خبرة متقدمة أبدوا اهتماما ملموسا بمسيرتي وبمساعدتي، وقد ساعدوني بصور مختلفة: من التبادل الفكري والنصح الأكاديمي، وإدخالي في مشاريع بحثية عن طريقهم، والإشادة والتشجيع والدعم في مجهوداتي التي تتعلق بمجالات اهتمامنا المشتركة. بعض أولئك الأشخاص التقيتهم في مسارات أكاديمية (كأستاذات وأساتيذ)، وبعضهم في مسارات فكرية ومعرفية خارج الدوائر الأكاديمية البحتة، لكن المشترك بينهم أنهم لم يكونوا بحاجة لأن يهتموا بي أو يساعدوني بالطرق التي ساعدوني بها، لكنهم اهتموا بذلك بسبب اتضاح الاهتمامات المشتركة أو الشغف المشترك–ثم ربما لاحقا حصلت لهم فوائد عامة، مثل مساهمتي النافعة في بعض أعمالهم أو اشتراكنا في تأليف أوراق أو حتى (لاحقا) إشراكي لهم في بعض المشاريع البحثية التي ابتدرتها، أو توفيري لمصادر وتشبيكات نفعتهم في أعمالهم. 

عبر ما قدّموه لي، ساعدوني في أن أجد صوتي، وأهذّبه. لم أحتج لأن أصبح صدى لأحدهم، مثلا، فلم يكونوا مشغولين باستنساخ نسخ منهم عبري، أو توقّعوا مني أن أستمر في كوني تحت جناحهم. بل مؤخرا، عندما أتحدث مع بعضهم، بنوع من النديّة الفكرية،  وربما بعض التفاوت في الرأي أحيانا (مع بقاء الاحترام والامتنان طبعا)، أجد منهم تقديرا واحتراما يذكّرني بكم كوني كنت محظوظا أن قابلتهم في مشواري. مثلا، قبل سنوات قليلة، جاءتني رسالة من أحد هؤلاء، والذي أعتبره من أهم من أعانني ويعينني العمل معهم على التطور المعرفي والتواضع المعرفي معا؛ قال لي في الرسالة:

‘I admire your dedication and enduring uncertainty. I am glad that you have the commitment to do the work you do in the particular ways you do it.’

ولعله لا يعلم، حتى الآن، أن كلماته تلك وصلتني في أيام عصيبة جدا، كنت بسببها أتشكك في الكثير من خياراتي المهنية والسبل التي قررت المضي فيها وما أوصلتني له، فنزلت كلماته تلك بردا وسلاما على صدري؛ وكأنه لم ينفك يكرمني باستثماره فيّ.

من الخلاصات التي وصلت لها، إجمالا، أنه في الصورة الكبيرة فإن أي شخص “عصامي” بالمعنى المألوف، تكون عصاميّته أو عصاميّتها مرتبطة بظروف وأناس وفّرت ووفّروا لها وله شروطا – عبر مراحل التطور المختلفة، منذ الصغر – أعانته على استمرار المسير في تلك الطُرق. لا يُنقِص ذلك من مجهوده ومجاهداتها الذاتية، إنما يكمّلها ويعطيها السياق التطوري الذي يجعلها مفهومة ومثمرة.  

——–

تمر السنوات، ويرى المرء نفسه الآن في مواقع وأدوار، في حيوات آخرين، تشبه أدوار أولئك النفر الكريم. وعند الانتباه لذلك فإن أقصى ما يتمناه المرء في هذه الظروف أن يلعب دوره جيدا في هذه الحلقة المتصلة من نقل المعارف و/أو المهارات ودفع الناس في اتجاهاتهم وطرقهم المبشَّرين بها. وفي لعب هذا الدور عائد كبير على المرء، عائد غير مادي إنما معنوي، يجعله يثمّن الوقت والجهد في الاستثمار في الآخرين، ويتمنى لهم التوفيق والازدهار بصورة يشعر معها بالمكسب الشخصي عندما يرى أحدهم يتقدّم وينجح في بعض خطواته (النجاح الرمزي والفكري، وغيرهما).

في السنوات الأخيرة، كنت محظوظا بأن وفّرت لي الظروف فرصة لأن أكون أحد المؤثرين في مسارات آخرين، بصور متشابهة مع الصور التي وجدتُ الدعم عبرها من آخرين، في مسيرتي، كما ذكرتُ آنفا؛ وهذه مراكمة للنِعَم التي يرجو المرء أن يكون شاكرا لها حق شكرها. أثناء كتابة هذه الكلمات، تجول بخاطري أسماء معيّنة من الشباب والشابات الذين أجد نفسي “أرقص من الداخل” (كما يقولون) عندما أرى منجزاتهم أو أسمع أخبار تقدمهم في مسارات مهنية وبحثية التقينا فيها عبر الاهتمامات المشتركة والشغف المشترك، أو حتى أسمع منهم عن تحركاتهم الجادة في تلك الاتجاهات (والتي ستؤتي أكُلها ولو بعد حين). وعبر التجربة الملموسة لا يساورني شك أن هؤلاء الشباب والشابات يكبرون كل يوم، ويتطورون، ويجتازون صعوبات، وأنهم حاليا وفي مقبل الأيام يحققون اختراقات في جبهات ربما أعجزتنا وأعجزت من قبلنا.. وفي ذلك خيرٌ كبير، وأملٌ مودع، لأنه يفيد بأننا إجمالا نتقدم ونتطور بما يفوق مساهمة الفرد وبما يتجاوز قصور أي واحد فينا منفردا. 

وكل هذه القصة، التي هي جزءٌ فقط من قصة كل واحد فينا (فكل واحد فينا كونٌ كبير، يحوي الكثير من الجوانب والحيوات المتداخلة)، تعين المرء على شيئين معا: (1) التواضع غير المصطنع، و(2) واستمرار العمل والاجتهاد، رغم ما تقدّمه الظروف أحيانا من إحباطات كبيرة وصغيرة.   

في مارس 2021، كتبت تعليقا في صفحتي بفيسبوك: “….’العملة ذات القيمة العليا في الدوائر الأكاديمية/البحثية هي الوقت. انتبه وانتبهي لأولئك الذين يعطونك وقتهم، فهؤلاء هم الذين يهتمون حقا بنجاحك ومستقبلك، وبازدهار مجال عملهم.’ من أفضل ما قيل في خلاصة الأمر. أهل المعرفة عموما – وليس الأكاديميون فحسب – ليس لديهم في الغالب ما هو أغنى وأثرى من وقتهم واهتمامهم ليعطونه لك، فمن أعطاك من ذاك فقد أكرمك، ومن أعطيته أيضا فقد أكرمته.” 

وإذ ما زالت هنالك طرق وفرص لأن يكرم بعضنا بعضا، بدون أغراض طمع أو خوف، وتستمر سلسلة الإكرام، ما زال هنالك أملٌ معقول، وما زالت هنالك بركة…. وللحديث شجون.

أضف تعليق