أبناء الثقافة الثالثة، والوطنية

نحن أبناء الثقافة الثالثة* من الأيسر علينا أن نكون منفتحين على العالم [لكن ذلك لا يعني أن جميعنا كذلك، أو أن غيرنا بالضرورة ليس كذلك]. لقد ترعرعنا ونحن نتعرّض لسرديات وممارسات ثقافية متعددة المصادر، سواء أكان في ما نرى وما نسمع في واقعنا، أو ما نقرأ من كتابات وما نستهلك من فنون (موسيقى وفولكلور وغيرها) وما نشاهد من صوتمرئيات، وسواء أكان في تنوّع الخلفيات الثقافية لمن هم في دائرة أصدقائنا المقربين (خاصة أصدقاء طفولتنا) وجيراننا وزملائنا، أو في تنوّع اللغات التي ترعرعنا وفقها وصرنا نفكّر بها (على تفاوت بيننا في ذلك وحسب تجاربنا الجغرافية).

لذلك فحين نكبر، ربما يظهر أنه من الأيسر عندنا التعامل مع رقعة جغرافية واسعة، متجاوزة لحدود الدول، باعتبارها مساحات مألوفة، نتحرك فيها ونتفاعل معها بسلاسة، وبذاكرة لا تتمركز في مكان واحد. بعضنا تتمدد تلك الرقعة عنده لتبلغ مجمل الكوكب، وبعضنا قد تبلغ معه منطقة أو قارة واحدة. ولعل كل ذلك يعلل البساطة التي يجدها بعضنا – أبناء الثقافة الثالثة – في مخاطبة العالم إجمالا، عبر ما نكتب أو ما نقول، أو عبر ما ننتج من صنوف تبليغ الأفكار والمشاعر التي نميل لها (فنون وغيرها)، وعبر التعاطي مع دروسه وشخصياته المتنوعة كمناهل طبيعية لنا. وهذا الأمر قد يبدو أحيانا لمن لم يعش تجربتنا تلك وكأنه تظاهر أو تصنّع لـ”سعة الأفق” (أو سعة التجربة الثقافية) بينما هو الأقرب للطبيعي عندنا. كل هذا ليس حصرا على أطفال الثقافة الثالثة، كما ذكرنا آنفا، بيد أنه أقرب لسجيّتنا، فحين فقدنا فرصة النمو في ثقافة واحدة ربما تورث نوعا من “الاستقرار” الثقافي، عُوِضنا بميزات أخرى. 

بيد أن ما هو صعبٌ علينا، بعض الشيء، ويحتاج منّا جُهدا، هو أن نسعى ونوطّن قضايانا وطموحاتنا، العامة والخاصة، مع أوطاننا الأولى–أو أوطان والدينا. هي أوطاننا لأنها مبثوثة فينا عبر ميراث معقّد، قديم وحديث، وهو ما يلفت انتباه بعضنا لها. وعندما ننتبه لها في ذلك المستوى، نجتهد في خلق علاقة جادة معها، وننخرط معها؛ وبذلك تصبح قيمتها عندنا غالية بصورة أخرى، فلقد استثمرنا فيها التعرّف والقُرب ولم نرثه كمعطى جاهز. هذه “وطنية” من تركيبة مختلفة – ليست أهم (أو أقل) من وطنية من كان هذا المكان مكانهم طيلة طفولتهم؛ فقط مختلفة (وقد لا يسميها البعض “وطنية”، بالمعنى المألوف–لا يهم). وهي بالنسبة لنا “الوطنية” التي نعرف–انتماء محلي لا يتناقض ولا  يتشاكس مع الانتماء الأوسع، بالضرورة؛ وانتماء للناس وللأرض لا يخلو مع شعور غُربة عنهم–غُربة تخف أحيانا وتتسع أحيانا، لكنها لا  تختفي…. وللحديث شجون.   


*”جيل الثقافة الثالثة” أو “أبناء الثقافة الثالثة” -third culture generation- مصطلح حديث يشير لأولئك الذين عاشوا فترة مقدّرة من سنوات تكوينهم (الطفولة، وربما بدايات المراهقة) خارج المجتمعات والثقافات التي ينتمي لها أهلهم (مثل أبناء المغتربين والمهاجرين حول العالم)، وبذلك عاشوا في كنف ثقافتين على الأقل (أو أكثر): ثقافة الأهل وثقافة(ثقافات) المجتمع خارج محيط الأهل، فتشرّبوا مزيجا بين تلك وتلك وأضافوا لها تجربتهم فصارت عندهم ثقافة ثالثة. وتلك الثقافة الثالثة قد تكون أحيانا متصالحة مع نفسها، وأحيانا متشابكة، لكنها عموما “ثالثة” من حيث تميّزها عن الثقافتين أو الثقافات التي تمازجت فيها.

(image source: https://expatchild.com/tck-home-identity/)

أضف تعليق