الخيال العلمي، وهموم البشرية

لعل أُفنون الخيال العلمي (science fiction) أكثر أفنون مهموم بمستقبل البشرية وبحاضرها، وذلك ليس على مستوى التكنولوجيا والعلوم فحسب – كما يتصوّر الذين ينظرون للأفنون من البُعد – بل على مستوى تنظيم المجتمعات وتشكّل القيم والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كذلك، بل أكثر من ذلك: على مستوى تعرّف الكائن البشري على نفسه أكثر، داخليّا، إما عن طريق اختبار نفسه وتمحيصها مع الزمن أكثر أو عن طريق اختلاطه بأشكال حياة متعددة في الكون الفسيح بحيث تكون مرآة له ولخواصه، بحيث تتمدد عنده مساحات “الإنسانية” وتتجاوز خصائص “البشرية”.

وهذا الأفنون (genre)، في سعيه “النبيل” هذا، لعله من أكثر حقول الإبداع التي تتعلم وتتلاقح فيها الإنتاجات داخليا، رغم سعة مساحة الخيال (التي تستوعب اكثر مما تستوعبه أفانين أخرى) سواء في مسار الرواية أو مسار العروض الصوتمرئية أو مسار تداول الاحتمالات. من المعروف حاليا كيف أثرت سلسلة الأساس (Foundation) لإسحاق عظيموف على سلسلة كثيب/الرمال (Dune) لفرانك هيربرت، وكيف أثّر الاثنان بدورهما على مساحات الخيال العلمي الأخرى مثل ستارتريك والإكسبانس (The Expanse)، ثم كيف أثّرت ستارتريك (Star Trek) في النسخة الجديدة من باتلستار قالاكتكا (Battlestar Galactica)؛ وغير ذلك من التداخلات المتعددة والتي تمتد من آخر سلسلة من عوالم الخيال العلمي إلى بدايات الأفنون القديمة (مثل رواية فراكنشتاين في  1818 لماري شيلي) وما بين ذلك (مثل فيلم 2001 لستانلي كوبرك في أواخر الستينات وBlade Runner في الثمانينات، وInterstellar  وArrival في السنوات الأخيرة). والبعض يرى أن من امتدادات هذا الأفنون ما يدخل في عوالم الكوميكز (مثل عوالم مارفيل، ودي سي كومكز، وغيرها) ليصبح عالما متعدد العوالم ومتداخلها. 

وهذا الأفنون بلغ من الأثر ما انعكس على واقعنا، وما زال ينعكس. الكثير من أهل العلوم والتكنولوجيا الذين يتصدّرون جبهات البحوث والابتكار اليوم كانوا وما زالوا من معجبي الخيال العلمي، وذلك أثّر في تصوّرهم لإمكانات التكنولوجيا وتصميماتها، وإمكانات نظم العلوم ومساحات الافتراض والتجربة، لدرجة ملموسة في واقعنا اليوم (مثل تأثير ستارتريك الستينات والثمانينات في تقانات الاتصال والتنقل في القرن الحادي والعشرين، ومثل تأثير عدد من روايات وأفلام الخيال العلمي في طريقة تعاطينا اليوم مع ظاهرة الذكاء الصناعي، ومثل الاستدعاء المستمر لسيناريوهات الخيال العلمي في دراسات فلسفة العلوم، وأحيانا في تأملات الميتافيزيقيا). وهنالك المزيد؛ فمن أفنون الخيال العلمي تفرّعت أنماط، مثل نمط السايبربنك (cyberpunk) التي تُعنى بتخيّل مستقبل تتطور فيه البشرية تكنولوجيا وعلميا بدون أي تطوّر أخلاقي واجتماعي يُذكر، وفي هذا النمط نجد مراجعات ومحاكمات أخلاقية عالية الطراز ومعقدة المحتوى للبشرية والتمددات المنطقية للمناطق المظلمة في أطماعها ومخاوفها. من الناحية الأخرى، نجد شخصيات عالمية مثل يانِس فاروفاكِس، الاقتصادي والفيلسوف الاشتراكي ملء السمع والبصر هذه الأيام، الذي ليس من معجبي ستارتريك فحسب وإنما بكل انسجام في اللقاءات الاقتصادية والفلسفية الجادة يتكلّم عن أهمية عالم ستارتريك، ويضيف أنه عالم نموذج لمستقبل اشتراكي متوطن وعالي التقانة، الأمر الذي يعطينا تصوّرا نسبيا لممكنات البشر على مستوى العدالة الاجتماعية وفق النظم الحديثة.

في السنوات الأخيرة، زادت الإنتاجات الهوليودية وغير الهوليودية لعروض الخيال العلمي، وأصبحت هنالك مساهمات جادة في هذا المجال من دول شرق آسيا ومن أمريكا اللاتينية، وزادت مشاهدية تلك العروض؛ لكن ما زالت المجموعات القديمة (أو الجادة) لمعجبي الأفنون متماسكة بحيث تراها أكثر مجموعات تبحر في المعاني والمآلات المتعلقة بعروض الخيال العلمي المتعددة اليوم. 

أفكّر كثيرا في أن أخصص، يوما ما، كتابة مرتبة عن الأبعاد والآثار الفلسفية والتكنوجتماعية للخيال العلمي؛ ومثل هذا المكتوب الصغير يكون فذلكة/مسودة لمخطوطة أو مخطوطات أوسع وأكثر تبحرا. ذلك إن وهبتنا الأقدار والانشغالات الحالية – الواجب المباشر – بعض الوقت والطاقة لغيرها، يوما ما. 

أتتني هذه التداعيات وأنا أشاهد هذه الأيام – مشاهدة اختلاس للزمن المستقطع مع انشغالات متراكمة وعديدة – المحاولة السينمائية/تلفزيونية لإحدى أهم روايات الخيال العلمي، وهي رواية “الأساس” لإسحاق عظيموف؛ خاصة وأنها رواية كبيرة الظل العلمي-فلسفي (وصاحبها فيلسوف وعالم حاول جادا كبسلة الكثير من الأفكار والتأملات العلمية-فلسفية في سردية الرواية وأحداثها). ومن أهم معالم تلك الرواية، المجال الذي سماه المؤلف “سايكوهستوري” (psychohistory) – أو علم التاريخ النفسي، وهو مجال علمي رياضي-اجتماعي مبتكر ويعتمد على قاعدة هائلة من البيانات والأحداث التاريخية يقوم بتحليلها رياضيّا وإحصائيا بحيث يستطيع عبر الأنماط المستنبطة منها التنبؤ بمستقبل الجماعات البشرية الضخمة على مدى زمني واسع بدقة عالية. وقد كتب عظيموف هذه الرواية في الستينات من القرن الماضي بينما تلقي هذه المسألة بظلالها الكبيرة على واقعنا اليوم في علوم الذكاء الصناعي وتعلّم الآلة (machine learning) وعلوم البيانات (data science) والإحصاء الجديد، والتفكير النُظمي. 

محاولة صعبة، بل مغامرة، تبني تلك الرواية في عرض صوتمرئي في تسلسل أحداث وشخصيات ممكنة المتابعة مثل القراءة؛ ولعله نفس مستوى الصعوبة في محاولة تبني رواية “كثيب/الرمال” في عمل سينمائي صدر مؤخرا كذلك وتحدثنا عنه. عموما، حتى الآن، نجح العمل في جذب المشاهدين بمقدار جيّد، خاصة وأن مستوى المؤثرات فيه عالي ومعقّد ومتعوب عليه بوضوح…. وللحديث شجون.

أضف تعليق