الابستمولوجيا الاجتماعية للعلوم…. ماذا؟

في بدايات عصر ظهور المناهج العلمية الحديثة (أي ظهور تطبيقاتها وظهور الكتابة عنها بصورة قصدية ومرتبة)، منذ جاليليو وإلى ديكارت، ثم إلى نيوتن وليبينز، إلخ، كان العالِم عادة ما يكون فردا، لديه ضمانات وموارد اقتصادية كافية ووقت كافي ليوظف وقته للبحث العلمي (التجريب والتنظير)، في معمله ومساحته الخاصة (مثل مكتبته الكبيرة الخاصة). وهذا أيضا كان الحال، لدرجة من الدرجات، منذ أيام الخوارزمي وابن سينا وجابر ابن حيّان، وآخرون من حضارات وأرجاء متعددة.  لذلك كان معظم العلماء في تلك المراحل التاريخية إما من الطبقات الثرية والتي لا تحتاج للانخراط في أشغال يومية، أو من الرهبان والكهنة التابعين لمؤسسات دينية مرتاحة اقتصاديا، أو إذا كان المرء فقيرا أو متواضع الحال وحالفه الحظ في إظهار قدراته العلمية لدى من يملكون الثروة والسلطة، يتم تبنيّه بواسطة أشخاص أو مؤسسات ثرية ليتفرغ لأبحاثه تحت رعايتهم (وهو ما حصل لمايكل فاراداي مثلا). وصحيح أنه في بعض الأحيان يكون لهؤلاء العلماء مساعدين، لكنهم عادة ما يكونون محدودين ويقتصر دورهم على أداء مهام وأشغال لا تدخل ضمن منطقة المشاركة في العصف الذهني والتحليل المتعلق بالبحث العلمي نفسه. باختصار، كان البحث العلمي رحلة فردية، ثم تظهر نتائجها لدوائر مغلقة عبر الكتابة والمراسلة والأندية التي يجتمع فيها أناس متشابهون في الامتيازات والاهتمامات. لاحقا، تدريجيا، تنسحب الاكتشافات العلمية لتطبيقات هنا وهناك في مجالات هندسية وصناعية ومعمارية، وما إلى ذلك. كذلك، لم يكن هنالك فاصل كبير بين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، والرياضيات، وما يسمى بالفلسفة والمنطق. يمكن للعالِم الواحد أن يكون صاحب تجربة في تلك المجالات مجتمعة، أو مجموعة منتقاة منها؛ لا يهم. 

مع زيادة سلطة العلوم، ومخرجاتها في المجتمع، وخاصة بعض ظهور التكنولوجيا الحديثة (المسنودة على مكتشفات العلوم)، بدأت عملية مأسسة العلوم
institutionalization of science
وهذه المرحلة أخذت وقتها كذلك، لكنها عموما تتصف بأن عملية البحث العلمي صارت تتم وفق رعاية ومراقبة دوائر علمية، هذه الدوائر تتألف من أولئك الذين حصلوا على إجازات في المجالات المعنية، ظهرت في هذه الفترة الشهادات العلمية المتخصصة، والتي تمنحها المؤسسات المتخصصة، وظهرت المناقشات والمراجعات العلمية للمكتشفات، وظهرت مجتمعات علمية، ذات هرمية. وذات ارتباط العلوم بالمعايير المتعارف عليها وبالبحث عن تطبيقات ملموسة لها في حياة الناس–في الزراعة، وفي الصناعة، وفي البنى التحتية، وفي المواد الكيميائية المستعملة في الحياة الحديثة (في الوقود، وفي الغذاء، وفي الملبس وفي أدوات الشغل العامة، إلخ). في هذه المرحلة التاريخية – الممتدة والمتداخلة – كان ظهور الأسماء العلمية الكبيرة يعتمد على عدة عوامل، لكن أهمها ظهور اختراقات علمية ملموسة على أيديهم بعد إجازتها وتوكيدها من المؤسسات العلمية. تلك الفترة التي ظهر فيها أمثال اينشتاين وماكس بلانك، وماري كوري، وفريتز هابر، وغيرهم. في تلك الفترة أيضا تأكّدت وتوطدت ممارسات علمية مثل تحكيم الأنداد ومثل تكرار التجارب المعملية عبر مختبرات وأشخاص متفاوتين لتأكيد النتائج التي يخرج بها أي فريق بحثي في مجال ما. وفي هذه الفترة أيضا أصبحت العملية العلمية لا تتم عبر أفراد، فحتى عندما يشتهر بعض الأفراد إلا أن شهرتهم تلك لا تُفهَم أنهم قاموا بالاكتشافات العلمية على طريقة نيوتن وجاليليو، إنما بنوا  عادة على أعمال غيرهم ثم كان معهم آخرون في المعامل والمختبرات ولولا هؤلاء لما استطاعوا الخروج بنتائج ملموسة. أصبحت عملية الاكتشاف العلمي عملية أكثر جماعية ومؤسسية، حتى عندما تبرز عبرها بعض الشخصيات كأسماء متفردة أحيانا.   

وحاليا، يندر أن نسمع بأسماء علماء متميّزين ومشاهير وأصحاب اختراق، بحيث يصبحون مشاهير علوم مثل أينشتاين وبلانك. البعض ربما ينسب ذلك لقلة الاكتشافات الكبيرة (الاختراقات) حاليا، لكن هذا التفكير غير صحيح تماما. لقد تقدمت الاكتشافات العلمية وزادت وتيرتها، وزادت تطبيقاتها في حياتنا اليومية، وزادت المجالات المتفرعة داخل المجالات الكبيرة التي تفرّعت عن بعضها مسبقا، بحيث أن ما كان يعتبر قديما اختراقا أصبح اليوم يُعتبر تطورا معقولا. أصبحت معظم الكتابات والمنشورات العلمية تحتوي على قائمة من المؤلفين وليس واحدا أو اثنين، وأصبح معظم العلماء المبرزين في مجالاتهم مبرزين بصورة نسبية فحسب، فهم في الصورة الكبيرة لا يبرزون أكثر من رصيد مؤسساتهم العلمية ومساهمات الفرق العلمية (research teams) التي ينتمون لها. كذلك ظهرت شبكات من الفرق العلمية، بحيث أن المشروع البحثي الواحد تشارك فيه فرق علمية متعددة من مؤسسات متعددة، تتشارك معلوماتها ومراحل تطورها في المشروع البحثي الواحد، بحيث أن المخرجات النهائية تكون في أفضل وصف لها: منتجات جماعية للمجتمعات العلمية. وصحيح أن عملية تكريم علماء معيّنين، ومنحهم الجوائز والتكريمات، ما زالت مستمرة، لكنها صارت تتم بطريقة أقل درامية وتمجيدا للأفراد. أيضا، في تزامن مع هذه التطورات، أصبحت هنالك أهمية للتواصل العلمي (science communication) للجموع العامة، بحيث قلّت صفوة المعرفة العلمية وصار الاهتمام بالعلوم ومخرجاتها وانعكاساتها ليس حصرا على الباحثين الأكاديميين والعاملين مباشرة في المجالات العلمية (واشتهر بعض العلماء عالميا ليس بسبب منجزاتهم العلمية التخصصية وإنما وفق بروزهم كناشرين ومروّجين للعلوم عبر الوسائل الإعلامية العامة). أيضا خفّت القبضة الأوروبية على العلوم، في هذه المرحلة، بحيث أصبحت الاختراقات العلمية الحديثة غير منحصرة في أوروبا (أو في تمددات الاستيطان الأوروبي في بقية القارات–أمريكا الشمالية، وأستراليا ونيوزلندا، وجنوب افريقيا، إلخ)؛ بل إن الكثير من الاختراقات العلمية والتكنولوجية صارت تحمل توقيعات آسيوية، وبوتيرة كبيرة، فالصين واليابان والهند وكوريا حاليا، مثلا، لم تعد قادرة فحسب على أي منتجات علمية كانت منحصرة سابقا في أوروبا وأمريكا الشمالية، إنما صارت كذلك تتفوق عليها في ريادة الجبهات العلمية في بعض المجالات الحديثة؛ كما أن هنالك بعض الاختراقات علمية وتكنولوجيا تظهر من شتى أنحاء الكوكب [يمكن مراجعة تقرير اليونسكو للعلوم 2021 لمزيد من التفاصيل].

ثم نحن الآن بدأنا ندخل في مرحلة جديدة، في تداخلات مع المرحلة السابقة، وهي ما يمكن أن نسميه مرحلة “نظم العلوم” أو نظم البحوث.
science systems – or research systems
وتمتاز هذه المرحلة بالتعقيد وبتداخل المجالات (وتجاوزها)
complexity and interdisciplinarity/transdisciplinarity 
بحيث أن عمليات العلوم صارت عمليات شبكية، معقّدة، ضخمة البيانات، ومتداخلة العوامل. في هذه المرحلة لم تعد فقط فرق البحوث كافية، بل هنالك حاجة لشبكات بحوث ينخرط بعضها ببعض في نظم متعددة ومتداخلة. وفي هذه المرحلة صار الاهتمام بالصورة الكبيرة بنفس أهمية الاهتمام بالتفاصيل، ذلك لأن الصورة الكبيرة أصبح من الواضح أنها لا تساوي فقط مجموع التفاصيل بل لديها خواصها المختلفة عن مجرد مجموع عناصرها، أي أن التفكير النظمي (systems thinking) ومفاهيمه وأدواته أصبح حاليا الموضوع الجاذب، أصبح “الموضة”، بمسمّيات عدة وتطبيقات متباينة. 

وفي هذه المرحلة، هنالك احترام للتداخل بين التخصصات مثلما هنالك احترام للتخصصات (أي أن المعرفة المتخصصة لم تفقد احترامها لكنها لم تعد الوحيدة المطلوبة والمتوقعة). لم يعد من الغريب أن تتعاون فرق في العلوم الطبيعية مع فرق في “العلوم الاجتماعية” أو الإنسانيات (الألسن، التاريخ، الفلسفة، الأنثروبولوجيا، القانون، إلخ). قبل فترة نشرنا مقال بعنوان “قبيلة جديدة”، بمجلة عَمَار [أغسطس 2021]،  يتحدث عن النمو العالمي لخرّيجي الهندسة والتكنولوجيا الذين يواصلون دراساتهم الأكاديمية، ومجالاتهم المهنية، في مجالات اجتماعية وإنسانية، مثل القانون والحوكمة والإدارة والاقتصاد (ومجالات متداخلة مثل إدارة البحوث، وإدارة التكنولوجيا، وسياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار، والاستشارات الهندسية للمشاريع التنموية، إلخ)، بحيث صار أثرهم ظاهرا في عدة بلدان. أيضا أشرنا عدة مرات لكتابات توما بيكتي، الذي أعلى من الصوت المعروف القائل إن دراسة الاقتصاد ينبغي أن تكون أكثر اقترابا من مجالات العلوم الاجتماعية وأن تكون كذلك مترابطة مع دراسات التاريخ والقانون والسياسة.  وفي هذه المرحلة كذلك هنالك محاولات جادة في أن يتزايد النفاذ للمعرفة العلمية والتكنولوجية لدى عامة الناس (وهي محاولات حتى الآن لم تنجح تماما، فهنالك سقوف صفوية للعلوم ما زالت مشهودة وملموسة الأثر، لكنها تواجه الآن مقاومة أكبر من ذي قبل).

أعلاه فذلكة موجزة جدا (ولذلك لا تخلو من مناطق خلل والتباس) لتطورات متعلقة بمسألة تموضع المعرفة العلمية في المجتمع، والآثار الاجتماعية (تأثيرا وتأثّرا) في ذلك التموضع–-ما يدخل إجمالا في مجال مستحدث نسبيا، يسمى “الابستمولوجيا الاجتماعية للعلوم”
social epistemology of science
وهو معني بطرق تداول العلوم في المجتمع وحيازتها على الإقرار والقبول والتطوير، باعتبارها معارف عامة تخضع لتأثيرات مؤسسات ومعايير، وطرق تعليم، وعلاقات ثروة وسلطة وإعلام (مثل سلطات الإجازة العلمية، وثروات تمويل المشاريع البحثية ونشرها، ومثل معايير القياس والتوثيق التي تحتاج توافقا بين دوائر متباينة وتأطيرات قانونية، ومثل اللغات المستعملة ومعتمدة للتعبير العلمي بحيث تؤثر الشروط اللغوية والثقافية على صياغة العلوم وتفضيل المدارس المتنافسة في فلسفة العلوم). يمكن أن نقول إن مجال الابستمولوجيا الاجتماعية للعلوم تطوّر من تلاقي عدة مجالات، مثل فلسفة العلوم وتاريخ العلوم والعلاقات الصناعية، فهو نفسه نموذج لمرحلة نظم العلوم والتعقيد. ومن أهم مواقف هذا المجال أن هنالك مشاكل موروثة ونواقص كثيرة موجودة في نظم العلوم الحالية، سواء في طرق عملها أو طرق انتشارها، أو طرق تعليمها، أو مزاعمها عن نفسها وقدراتها واستقلاليتها من المؤثرات الاجتماعية والفلسفية-أخلاقية. هذه المشاكل بحاجة لمراجعات وتأملات، بحيث أن إيجاد حلول لها احتمال مفتوح ومقبول، وبالإمكان كذلك أن نبتكر ونطوّر نظم علوم وتكنولوجيا أفضل، فعمليات الابتكار والتطوير لا تتوقف…. وللحديث شجون.

رأي واحد حول “الابستمولوجيا الاجتماعية للعلوم…. ماذا؟”

  1. اعتقد في رأي الخاصة أن مدونية سرادق عمل ثقافي عظيم له فضل في نشر المعرفة والوعي وبعث التنوير

    رد

أضف تعليق