بعد ثورة أكتوبر 1964، قامت أول حكومة انتقالية بقيادة سر الختم الخليفة، ولم تستمر تلك الحكومة أكثر من 4 أشهر. كانت تشكيلة تلك الحكومة عموما “تكنوقراط” بمعنى أنهم مهنيّون وأصحاب معرفة فنية/عملية في مجالاتهم من عمل وزراعة وغير ذلك، ولم يحظ فيها أي حزب كبير أو صغير بأكثر من مقعد وزاري. كان التكنوقراط مدعومين من جبهة الهيئات، بينما كان النادي السياسي التقليدي (الحزبين الكبيرين والاخوان المسلمين) ناقما على تلك التشكيلة الحكومية واتهمها بأنها حكومة شيوعيين استأثرت بالسلطة بدون وجه حق. مورست ضغوط عالية على تلك الحكومة (وصلت التهديد بالعنف الواسع) واتُّهمت بالفشل في كل شيء، حتى قام سر الختم الخليفة بتقديم استقالته لمجلس السيادة (وعندما يستقيل رئيس الوزراء فذلك يعني تلقائيا تنحي طاقم حكومته كلها). قبل المجلس السيادي استقالة الخليفة ثم جدد تعيينه كرئيس وزراء وعهدوا إليه بتشكيل حكومة جديدة، وهذه المرة كان واضحا أن التشكيل الجديد سيأتي على مزاج النادي السياسي التقليدي ولا عزاء للآخرين.
باختصار، المجلس السيادي والمجلس العسكري، وعبدالله حمدوك، وتجمع المهنيين، وقوى الثورة المضادة، إلخ، كل هؤلاء اللاعبين يكررون أدوارا وأحداثا غير جديدة في التاريخ السياسي السوداني الحديث والذي لم بتجاوز بعد قرنا من الزمان. بل وليس بعيدا أن تكون إحدى الحيل التي أقنع بها الانقلابيون أنفسهم وأقنعوا حمدوك (بسذاجة منه أو بضعف موقف، لا يهم) أنهم إنما يخطون خطى المرحلة الانتقالية التي تلت ثورة أكتوبر، لكن المهم في هذه المقارنة أنهم يكررون أسباب فشل ثورة أكتوبر في إحداث التحولات المطلوبة في الخارطة السياسية السودانية. في مقال أخير ذكر عبدالله علي إبراهيم أنه قد “بدا لعسكري اليوم، واسطة عقد الثورة المضادة في منصة القصر، أنه ربما أن دولتهم باطلة بغير حمدوك. فأرادوا منه بالمفاوضات الجارية أن يشكل حكومة ثانية بشروطهم كما فعل الخليفة في حكومته الثانية.”
ذكرنا غير ذي مرة (وآخر مرة كانت في كتاب “ممكنات السودان” الذي صدر في أكتوبر 2021) أن السودان ما بعد الاستعمار بقي في حالة من الاعتقال التاريخي، فهو يكرر دورة تاريخية واحدة، بنفس المعالم العامة (مع تغيّرات في التفاصيل بسبب اختلاف سياقات زمنية)، بصورة غريبة، وباسترجاع وتحقيق للعبارة الشهيرة لمحمود محمد طه “كل تجربة لا تورث حكمة تكرر نفسها”. وذكرنا أنه من أجل الخروج من هذا الاعتقال ينبغي أن تحصل اختراقات حقيقية في الحراك السياسي السوداني، وتلك الاختراقات تقتضي، ضمن ما تقتضي، تمايز الصفوف بين من يريدون تحوّلات جذرية في بنية الدولة السودانية وعلاقات السلطة والثروة فيها وبين من يريدون تغيير واجهات ومساحيق بين الحين والآخر مع الاحتفاظ ببنية الدولة وعلاقات السلطة والثروة عموما كما هي.
ربما الشيء الجديد حقا، والمختلف بصورة واضحة عن الدورتين التاريخيتين السابقتين في تاريخ السودان (واللتين توّجتهما ثورة أكتوبر 64 وثورة/انتفاضة أبريل 85) هو أن الحراك الثوري الذي بدأ في ديسمبر 2018 استمر فترة أطول وعلى نطاق أوسع، وقدّمت الجماهير المدنية فيه تضحيات كبيرة من شتى بقاع السودان. هنالك اختلافات أخرى ليست جوهرية، مثل طول الفترة الانتقالية هذه المرة (والتي جعلت بعض الأحداث المتوقعة تحدث داخل الفترة الانتقالية نفسها بينما في المرتين السابقتين حصلت بعدها بزمن بسيط). أعتقد أن علينا أن نركّز على هذا الاختلاف الجديد البارز: طول وسعة فترة الحراك وكبر التضحيات، فهذا الاختلاف ربما هو مفتاحنا لكسر الحلقة البائسة والخروج من هذا الاعتقال التاريخي نحو ممكنات أوسع وأعمق.
لذلك، وكما أكّدت قوى الثورة، فما حدث اليوم، 21 نوفمبر 2021، في ما سمّي بالاتفاق السياسي، لا يعني قوى الثورة في شيء، فالثورة ماضية بديناميكاتها وقوتها الذاتية في طلب أهدافها، مهما تكالبت عليها دواعي الانحراف (وهي الدواعي التي أخّرتها فعلا وكّلفتها المزيد من الثمن والزمن، لكن لم تقتلها). في الواقع، ربما كانت هنالك أخبار إيجابية في ما حصل اليوم، وهي حصول المزيد من فرز الكيمان (تمايز الصفوف) الذي ذكرناه آنفا، حتى تقل مناطق التداخل المشوّش وغير المنطقي، ويزيد عنفوان وإصرار قوى الثورة، وتزيد جدية سيرها من الحشد إلى التنظيم ومن الطموحات إلى الرؤية.
ما زالت السيناريوهات الصعبة تتفتّق، والتحديات تترى، لكن الشعب يزداد وعيا بتسارع كبير، ويزداد صمامة في خياراته المصيرية وتزداد قوى الثورة حماسا في العمل المستمر حتى النصر.
المجد والكرامة لشعوب السودان.