لماذا نستثمر في افريقيا

القارة الافريقية تغطي 20% من سطح الكوكب (اليابسة)، وهي مكان حياة 1.4 بليون بشري–والراجح أن يبلغوا 2.5 بليون مع بلوغ سنة 2050. لدى افريقيا 60% من مجمل ما في الكوكب من أراضي صالحة للزراعة لم تُحرَث بعد؛ كما بها حوالي 30% من مجمل مخزون الكوكب من المعادن، ذلك بجانب الكثير من الغابات الغنية والمهمة (ليس كموارد تنموية فحسب وإنما للتوازن البيئي على الكوكب كله كذلك). يضاف لذلك، يمكن أن نسمي افريقيا حاليا قارة الشباب، فالشباب الافريقي (أي من تبلغ أعمارهم ما بين 15-24 عاما) يشكّلون ثلثي مجمل سكان القارة، وثلث شباب الكوكب، ذلك بينما الكثير من بقاع العالم – وخاصة البقاع المتقدمة اقتصاديا – تتعامل مع حالة تسارع “شيخوخة السكان” (وهي ارتفاع نسب من هم في سن التقاعد مقابل من هم في سن العمل)، والمتوقّع أن تبقى القارة الافريقية كذلك للعقود البضع القادمة. 

ومع هذه الأنماط والحقائق “الصلبة”، هنالك أيضا أنماط أخرى “ناعمة”، وهي تتعلّق بالتحولات في الأنماط الاجتماعية والمعرفية. فبينما ما تزال افريقيا متأخرة في جبهات العلوم والتكنولوجيا والابتكار، وفي جبهات التنمية الاقتصادية (خاصة وأن التنمية في عصرنا صارت مرتبطة رباطا قويّا بالتكنولوجيا والمعرفة) إلا أن انخراط الأفارقة في المزيد من التعليم وتحصيل المعرفة والقدرات التكنولوجيا متزايد وملموس. جاء في كتاب “السلطة الخامسة: نحو توطين التكنولوجيا” (2021) أن نتائج مكتب التعداد الفدرالي بالولايات المتحدة الأمريكية، في السنوات الأخيرة، تقول إننا إذا قسّمنا فئة المهاجرين إلى مجموعات حسب أصولهم الجغرافية، فسنجد أن أكثر مجموعة ذات إنجاز تعليمي – أي حائزة على أكبر كمية من الشهادات التعليمية الرسمية العالية، الجامعية وفوقها – هي فئة المهاجرين الأفارقة؛ أي “في حين إفريقيا اليوم أكثر قارة متأخرة تنمويا وتعليميا في العالم اليوم، نجد أن فئة المهاجرين الأفارقة في الولايات المتحدة الفئة ذات أعلى نسبة من التحصيل التعليمي الأكاديمي مقارنة بالفئات المهاجرة من مناطق أخرى حول العالم، بما فيها آسيا عموما وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية.”

يضاف لذلك، فإن عددا من أسرع دول العالم نموّا اقتصاديا اليوم دول افريقية. ومع هذه التحوّلات أيضا هنالك تحولات ملموسة في المضمار السياسي على مستوى القارة، فالشعوب الافريقية زادت من ضغوطها على أنظمة الحكم نحو المزيد من المشاركة الشعبية في القرار السياسي، ويمكن أن نرى أن ضغوطها تلك أدّت لزيادة في الاتجاه الملموس نحو ذلك، وبنفس القدر فإن الضغوط السياسية زادت على أنظمة الحكم في افريقيا لتبرير شرعيّتها عبر الإنجاز في مخرجات التنمية. كما أن شعور القارة إجمالا بأهمية المزيد من التواصل الداخلي، سياسيا واقتصاديا، صار يتبلور عبر عدة مبادرات واتجاهات، بعضها سياسية عبر الاتحاد الافريقي (مثل الاتجاه نحو المزيد من دواعي الوحدة السياسية، ومثل اتفاقات التجارة والاستثمار الداخلية بين الافارقة، ومثل وضع استراتيجيات وسياسات مشتركة للتنمية المستدامة ولرفد العلوم والتكنولوجيا والابتكار)، وبعضها ثقافي واجتماعي عبر المجتمع المدني الافريقي وعبر أفكار ونقاشات الأفارقة، مثل العودة القوية للحركة الافروعمومية (Pan-Africanism) في العديد من البلدان الافريقية، وهذه المرة بتنوّع أكبر في الأًصوات وفي التمثيل – مثل الزيادة الملحوظة للصوت والحضور النسائي في الحركة، ومثل تصاعد الاهتمام بالحركة وسط شباب شمال افريقيا –  وفي طرح القضايا الجادة (المتعلقة بالتنمية وبالتحرر وبالثقافة) عبر المنصات المتنوّعة المتوفّرة (النشر المكتوب والصوتمرئيات، والملتقيات الفكرية والثقافية) وعبر أدوات الخطاب المتنوعة كذلك (الدراسات، والفنون، والمبادرات الخلاقة المتعددة). على سبيل المثال، فإن النقاش حول نموذج “الدولة التنموية الديمقراطية” يمكن أن نعتبره نقاشا افريقيا لدرجة كبيرة، لعدة أسباب، أحدها أن نسبة مقدّرة من المفكرين الذين ابتدروا التنوير بذلك النموذج وممكناته أفارقة (مثل ثانديكا مكانداويري، وأركيبي اوكباوي، ومثل إرهاصات النموذج في كتابات مفكري حقبة التحرر الوطني الافريقية)، وأحدها كذلك أن معظم النقاش حول إمكانيات الدولة التنموية الديمقراطية معني بإمكانياتها في افريقيا بالذات، إذ افريقيا هي أكثر مكان قابل لتجربة النموذج (وامتحانه وتطويره مع التجربة).

عندما نجمع الأنماط والحقائق أعلاه (الصلبة والناعمة) تظهر لنا ديناميكا التاريخ التي تجعل افريقيا اليوم بؤرة للمستقبل، أيّا كان ذلك المستقبل الذي ينتظر البشرية.  فالديناميكا الماثلة أمامنا لا تخلو من تحديات، منها تحديات داخلية (كصراعات التحول السياسي والأولويات التنموية)، ومنها تحديات خارجية (وأهمها مطامع القوى العالمية في افريقيا ومصالحها في بقاء شعوب القارة على حالة من الاتكالية وفقدان البوصلة)، ومنها التحديات المختلطة (مثل مشكلة هجرة العقول، والتي تناولناها في كتابات سابقة متعددة). ووفق ما يحصل مع هذه التحديات، وكيف نتصدى لها، فإن افريقيا موعودة إما بمستقبل يستحق كل ما نبذله من أجله الآن، أو بمستقبل يستحق كل ما نبذله في محاولة تفاديه الآن. في كلا الحالين، افريقيا في غاية الأهمية.

في كتاب “سعاة افريقيا” (2020) جاء، “لعل افريقيا اليوم هي الفرصة الوحيدة الماثلة للبشرية المعاصرة لتحقيق رفاه بدون استغلال، أي لإثبات أن نموذج التحرر والتنمية (أو التنمية والتحرر)، الذي يمكنه تحقيق ذلك ممكن عمليا…. فواقع افريقيا اليوم، أكثر من بقية مناطق العالم، هو التنمية المتأخرة والعدالة المتعثّرة، كما أن التاريخ الحديث الذي ورثته من أكبر التواريخ شمولا في جوره وبؤسه. لكن ذلك الوضع أيضا يجعل افريقيا قادرة على المشي في طرق جديدة أكثر من غيرها، لأن غيرها مضوا في طرقهم أكثر منها ويصعب عليهم الرجوع عنها، في حين أن افريقيا ما زالت في بداية الطريق. وعليه، فإن لديها فرصة أكبر في التمييز بين مفترقات الطرق واتخاذ طرق جديدة لتحقيق رفاه بدون استغلال، حيث لم تحققه أي من الطرق المطروقة في الماضي والحاضر. هذا الوضع تمثّله العبارة القائلة “مع كل أزمة هنالك فرصة” فالأزمة الآن متوفرة في افريقيا أكثر من غيرها، لكن لذلك أيضا تتوفر لديها الفرصة لإحراز شيء جديد أكثر من غيرها. فإذا أحرزته فإنها ستكون بداية عهد جديد لا لإفريقيا وحدها وإنما للإنسانية جمعاء، لأنه بمجرد أن يتم الإثبات العملي لإمكانية تحقيق نموذج رفاه بدون استغلال تنتفي مبررات وجود الاستغلال في عالمنا، وتتحرك القافلة البشرية عموما نحو المزيد من هذا النموذج الجديد.”

لأجل كل هذا، وأكثر، نحن نستثمر في افريقيا—في حاضرها ومستقبلها. وطبعا فحين نقول إننا نستثمر في افريقيا فإن ذلك الاستثمار أكبر ما يكون في الشعوب الافريقية، وفي الإنسان الافريقي. والاستثمار الذي نعنيه هو بذل الجهد، والطاقة، والزمن، والموارد، حيثما كنّا وحسب زاوية عملنا، في مساعي النهوض بأفريقيا، وتوظيف المعرفة والقدرات التي اكتسبناها، وما زلنا نراكمها، في خدمة تلك المساعي، وكذلك استعمال ما ننتخبه من أفكار وهياكل تنظيمية، وتضامنات جماعية، في نفس الاتجاه…. وللحديث شجون. 

 

أضف تعليق