القرار الاقتصادي ليس اقتصاديا 

تناولَت كتابات سابقة أن قادة النقلات التنموية والاقتصادية الكبيرة التي حصلت مؤخرا، في بعض بلدان العالم (أي البلدان التي انتقلت من قوائم الدول النامية والأدنى أجرا إلى قوائم الدول الصناعية والأجور العالية)، لم يكن معظمهم اقتصاديين مهنيين، أي أن دارسي الاقتصاد لم يكونوا هم الفئة الظاهرة والسائدة في دوائر القرار وفي مفاصل الخدمة المدنية. في كتاباته، يحب ها-جون شانق، خبير الاقتصاد التنموي المعروف وأستاذ الاقتصاد في جامعة كيمبردج، أن يشير إلى هذه النقطة [1، 2]؛ ففي آسيا مثلا كان معظم من قادوا العملية التنموية واشتغلوا في مفاصل الدولة، مهندسين (كما في الصين وفي تايوان) كما كانوا قانونيين (كما في سنغافورة وفي كوريا)، أي أصحاب تدريب مهني/أكاديمي في الهندسة وفي القانون. وفي مناطق أخرى كانوا أصحاب تعليم فنّي أو علمي، غير اقتصادي، أو ما دون جامعي (مثلما كان في أمريكا اللاتينية، وبعض بلدان افريقيا). (وفي كتابات سابقة أِشرنا إلى أن مهاتير محمد كان طبيبا وأن نيريري كان أستاذا مدرسيا في الأحياء والتاريخ، ثم انخرطا في العمل العام وأثبتا قدرات عالية في صنعة الدولة، أو الحوكمة وصنع السياسات). يؤكد شانق أن هذا الأمر لا يعني ذلك أن هؤلاء المذكورين لم يكونوا على اطلاع ومعرفة بالاقتصاد وبمبادئ السياسات الاقتصادية، أو لم يستعينوا بمشورة اقتصاديين خبراء أو لم يزاملوهم في العمل على المشاريع التنموية (بل كان هنالك وجود للاقتصاديين في كل تلك الدوائر)، ولكنهم لم يكونوا أهل تخصص في الاقتصاد بينما كان القرار في السياسات الاقتصادية يعود لهم في جملة الأمر. ثم يؤكد شانق أن ذلك لا يعني أن الاقتصاديين لا جدوى منهم، فذلك بطبيعة الحال غير صحيح كما أنه سيكون متناقضا مع وضعه شخصيا، لكنه يريد لزملائه الاقتصاديين، ولتلاميذه طلبة الاقتصاد، أن يتحلوا بالتواضع بخصوص قدراتهم وأدوارهم في عمليات التحول التنموي والاقتصادي في المجتمعات الحديثة، كما أنه يريد أن يؤكد لصانعي السياسات أن ضخ المزيد من خريجي الاقتصاد في هياكل الخدمة المدنية (كما تقول بعض التوصيات العامة التي تتلقاها الدول النامية بواسطة المؤسسات الدولية “النيولبرالية”) لن يعود بالضرورة بعائد إيجابي–وقد لا يفوت هنا على القرّاء أن شانق يتحدث عن أهمية “النوعية وليس الكمية”، بالنسبة للاقتصاديين وبالنسبة لغيرهم، كما أنه يتحدث بوضوح في كتاباته ومحاضراته عن أن وجود رؤية وخطة تنموية واضحة وجادة في البلد أهم بكثير من انتشار أهل التخصصات الاقتصادية والتنموية في هياكل الدولة.

في مقالة بعنوان “قبيلة جديدة: مهنيّون ودارسون بين تداخلات الهندسة والحوكمة”، قبل عامين [7]، أشرنا كذلك إلى واقع أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعدا عالميا في حالات دارسي الهندسة والعلوم الذين ينتقلون مهنيا وأكاديميا إلى حقول الدراسات الاجتماعية (كالاقتصاد والحوكمة والتنمية، وإدارة الاعمال، وحتى الإنسانيات أحيانا)، وبصورة أثّرت على مجريات الأمور، مثلما حصل في الصين، والتي “في فترة نهضتها الوطنية الحديثة الأسطورية….لم يكن خرّيجو الهندسة والعلوم في قمة هرم دولتها فحسب (تنفيذياً وتشريعياً) بل كانوا كذلك – وما زالوا – راسمي الخطط والسياسات بعيدة المدى، وأيضا درابنة المنافذ….ومصممي المشاريع الوطنية والعابرة للحدود التي جعلت وتجعل من الصين الآن السلطة العالمية الصاعدة (والقريبة جدا من هدفها) بعد أن كانت عالماً ثالثاً قبل أربعة عقود. [ولذلك] في الصين هنالك ثقافة عامة تضع ثقة عالية في أن خريجي الهندسة والعلوم لديهم مستوى كفؤ من القدرات والالتزام ليكونوا تكنوقراط ومديرين للملفات العامة في الدولة والأعمال والمجتمع المدني.”[7] كما جاء في المقالة أن هذه الحالات لها حسناتها كما لها مثالبها (فأهل تخصصات الهندسة والعلوم لديهم مشاكل كذلك ينبغي الانتباه لها وإلا ستطغى على أعمالهم). 

وهذا الأمر يستحق التذكير، والتفكير، ليس بصدد تهميش دور الدراسة الاقتصادية المهنية/الأكاديمية، فهي دراسة مهمة وفعالة في سياقنا المعاصر، كما ليس بصدد الاستنكار على الاقتصاديين حقهم بالافتخار المعقول والشغف المفهوم بمجال دراستهم، فهذا أيضا أمر عادي ولا يخص دارسي الاقتصاد فحسب [فمثلما سمعت مؤخرا أحد كبار الاقتصاديين في حكومة الفترة الانتقالية السابقة يقول إن “الاقتصاديين هم ملح الأرض”، لا أنكر أن بعض زملائي في مجالات الهندسة يعتقدون أن الهندسة هي الدراسة المهنية/أكاديمية الحقيقية وما سواها مجرد لعب عيال، كما نعلم أيضا أن وسط دارسي الطب من يظنون أن أعلى الناس ذكاءً هم الأطباء، وهنالك أيضا وسط دارسي الإنسانيات من يظن أن مجالات الفلسفة والتاريخ والقانون كانت وما زالت أمهات بقية العلوم بل هي المعرفة الإنسانية الأصلية]. لسنا مشغولين حاليا بهدم أوهام جميع هؤلاء، بل ما يشغلنا هو ضخ الجرعة الكافية من التواضع المهني التي تجعل الناس تفهم أن معالجة القضايا “التكنوجتماعية” المعقّدة في عالمنا اليوم، كقضايا التنمية والتطور الاقتصادي والاستدامة البيئية والتغيير الاجتماعي، لا تستحمل أقل من الدرس والعمل متعدد ومتداخل المجالات (سواء بالتخصص الأكاديمي أم بالتحصيل الجاد). ومن ضمن تلك القضايا، بلا شك، القرار الاقتصادي لدى أي مجتمع أو مؤسسة.

يشير جون ك. قالبريث، أستاذ الاقتصاد والدبلوماسي الكندي، في كتابه حول تاريخ الفكر الاقتصادي [3]، إلى أن تعريف الاقتصاديين للاقتصاد من أوسع تعريفات المجالات، بصورة طموحة جدا. مثلا، أورد قالبريث تعريفا واسع القبول وسط الاقتصاديين، مفاده أن الاقتصاد هو مجال دراسة السلوك البشري كعلاقة بين المعطيات المحدودة والخيارات المتاحة (التعريف يعود إلى ليونيل روبنز في 1932).  أشار لذلك ها-جون شانق كذلك، إذ أورد عدة تعريفات متواترة وسط الاقتصاديين، ليقول إن مثل هذه التعريفات بجانب تضخم الذات عندها (وتكبيرها لرؤوس الاقتصاديين) لا تعين على جعل الاقتصاد مجالا مفهوما ومعروف الدور في حياة الناس، لأنك عندما تعرّف مجالا ما بأنه يدرس كل شيء فأنت عمليا لم تعرّف أي شيء، لأن التحديد من وظائف التعريف، لغويا وفنيا. إذن فالتعريف المتواضع لحدود مجال الاقتصاد بداية جيدة. قدّم شانق تعريفه المتواضع للاقتصاد بأنه دراسة الكيفيات التي بها يقوم البشر بإنتاج الأشياء واستهلاكها، وبتوزيع العوائد (وحتى هذه لا تغطيها دراسة الاقتصاد تماما، فالاقتصاد مثلا لا يحيط بدراسة الكيفيات الفنية والهندسية والعلمية لعمليات الإنتاج) [2]. قبل ذلك قام كارل بولاني كذلك بتقديم تعريفه للاقتصاد بأنه عملية ومؤسسات، أما العملية فهي “حركة الفوائد المادية عبر المكان وعبر الحيازات” [4] وأما المؤسسات فهي القواعد والطرق التي تجترحها المجتمعات لاستمرار واستقرار هذه العملية، برسم ميدان الممارسات والتوقعات (وعبر الدراسة التاريخية والانثروبوجولوجية، خلص بولاني وزملاؤه البحثيين إلى أن حركة الاقتصاد كما عرفته الحضارات التاريخية الموثقة كلها – من الممالك والامبراطوريات والمشايخ القديمة وحتى عصر ما قبل اقتصاد السوق – كانت دوما مُضمنة ومنسوجة في مؤسسات المجتمع عبر “آليات تكامل” ثلاث، جئنا على ذكرها في كتاب “حوكمة التنمية”) [8]. بالنسبة لنا، هذه هي التعريفات المعقولة للاقتصاد، وهي التعريفات المعينة على الفهم والعمل، أما التعريفات الطموحة، الفضفاضة، فلا يعوّل عليها.

ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى فبالكاد نجد هنالك أي قرار “اقتصادي” في المجال العام يمكن عزله عن سياقه وملابساته الاجتماعية والسياسية والثقافية (والأخلاقية والمذهبية)، بجانب التداخلات المحتملة لذلك القرار مع قضايا أخرى، هندسية أو صحية أو بيئية، الأمر الذي يجعل أي قرار اقتصادي محكوما بعوامل وتطلعات لا تدخل في الدائرة المحدودة للاقتصاد. وفق هذا الواقع فإننا نجد وسط الاقتصاديين (الأكاديميين والمهنيين) جمعا مقدّرا يدعو إلى أهمية استعادة الوصف الصحيح للاقتصاد: الاقتصاد السياسي (وهو الاسم الأول والأقدم للمجال المعروف حاليا بالاقتصاد). يذهب توما بيكيتي، وهو صاحب اثنين من أهم كتب الاقتصاد في القرن الحادي والعشرين [5، 6]، إلى أن الأفضل والأكرم لمجال الاقتصاد أن يرتبط باسمه الأول، ثم أن يتخذ لنفسه مقعدا محترما وسط العلوم الاجتماعية بدل أن يزعم أنه أعلى منها وأنه أكثر موضوعية واستقلالا بحيث يقترب من العلوم الطبيعية.  

ومع ذلك فمن الواضح لدينا أن دراسة الاقتصاد، الدراسة المتعمقة، المهنية، أمر مهم جدا في عالمنا المعاصر، وهي في ذلك فرض كفاية. أما الإلمام بأبجديات الاقتصاد والانتباه لتشابكاته مع قضايا التنمية والعدالة والتكنولوجيا والعلوم، ومجمل أنشطة البشر في كسب العيش وصناعة المعنى، ففرض عين، ليس على جميع صنّاع القرار فحسب، بل على جميع المنخرطين في المجال العام؛ وربما نقول على كل مواطن له مستوى من ممارسة الديمقراطية في اختيار من يمثلونه وبرامجهم وله مستوى من الاهتمام بـ”سبل كسب العيش”–وفي ذلك دفعنا، في كتابات سابقة [8]، بفكرة أن يتم تضمين أسس الاقتصاد والتكنولوجيا في المناهج التعليمية الأولية للمدارس.

نعتقد أن الموقف الموضّح أعلاه، من الاقتصاديين ومن مجال الاقتصاد، موقف معتدل ومنصف (ويتفق معنا فيه اقتصاديون كبار، كما ترون)…. وللحديث شجون.


[1] Ha-joon Chang and Ilene Grabel. 2004. Reclaiming Development: An alternative economic policy manual. London: Zed Books.  
[2] Ha-joon Chang. 2019 (December). Economics for People. Lecture series, Institute for New Economic Thinking (INET): https://youtu.be/D-6rQmHpGfE (also source of picture) 
[3] John K. Galbraith. 1987. A History of Economics: The past and the present. London: Hamish Hamilton. 
[4] Karl Polanyi, Conrad M. Arensberg and Harry W. Pearson (eds.). 1957. Trade and Market in Early Empires: Economies in history and theory. Glencoe, IL: The Free Press.
[5] Thomas Piketty. 2014. Capital in the Twenty-first Century (Translated). Cambridge, MA: Harvard University Press.
[6] Thomas Piketty. 2020. Capital and Ideology (Translated). Harvard University Press. 

[7] قصي همرور، 2021، “قبيلة جديدة: مهنيّون ودارسون بين تداخلات الهندسة والحوكمة،” مجلة عَمَار، أغسطس.
[8] قصي همرور، 2020. حوكمة التنمية: قضايا وأطروحات. الخرطوم: هيئة الخرطوم للصحافة والنشر.

 

 

أضف تعليق