مفوضية التنمية المستدامة: أولوية

منذ العام 2019، ظللنا جزءا من الدعوة المستمرة لإنشاء مفوضية للتنمية المستدامة، تكون الرائد والضامن لالتزام هياكل الفترة الانتقالية برؤية وأعمال تنموية ذات ضرورة لنجاح عملية الانتقال ولنجاح مشروع بناء دولة عصرية وديمقراطية في السودان. وبعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 والعودة للحديث عن فرص التجربة الانتقالية القادمة، استعدنا ذلك الموضوع ودفعنا به بصورة متكررة، في هيئة مقالات، وتسجيلات فيديو، وأوراق ندوات [قائمة مرفقة]، بالإضافة لمرافعات أمام لجان المقاومة وأمام مبادرات شعبية ثورية كيما تقوم بتضمين مفوضية التنمية في تصوراتها للانتقال.

أوجزنا وظيفة تلك المفوضية في الآتي:
– ضمان استخراج خطة تنموية مدروسة جيدا ولديها معالم واضحة تعتمدها السلطة التنفيذية، ثم جعل تلك الخطة التنموية القُطرية هادية لكل السياسات والبرامج التي تخرج من الوزارات الأخرى، وهادية كذلك لكل القرارات والتوجيهات التي تصدر من رأس الدولة.
– ريادة مشاريع تنموية ملموسة، أي الإشراف على تنفيذها وربما إدارتها لبعض الوقت (مثل مشاريع البنى التحتية والخدمات العامة ذات الطابع التنموي، ومثل مشاريع إنتاجية في الزراعة أو بناء وإدارة مجمّعات صناعية على المستوى القُطري، ومثل تأسيس شركات موازية للدولة (parastatals) لأداء مهام اقتصادية أو تجارية لمصلحة المستهلكين المحليين، ومثل برنامج قُطري للدعم التدريبي والمالي للمشاريع الإنتاجية الصغيرة، ومثل تأسيس أو توسعة أسواق محلية تزيد من عرض المنتجات المحلية ورفع جودتها، ومثل تثبيت برنامج للمشتريات العامة للدولة يُلزم مؤسسات الدولة بشراء المنتجات المحلية من أثاث أو ملبوسات أو محاصيل زراعية أو منتجات غذائية أو التعاقد المحلي لخدمات صيانة ولوجستيات بمواصفات ومقاييس قوية، إلخ).

ذكرنا، في معرض دفعنا بإنشاء هذه المفوضية، أنها ستعكس الأهمية الأساسية لمهام التنمية عند السلطة الانتقالية، فالقضية الاقتصادية في السودان هي قضية تنمية وليست اقتصادية بالمعنى التجريدي. والتنمية باعتبارها حقلا يشمل عدة وزارات وعدة مستويات حكم تحتاج لمفوضية. ذكرنا كذلك أن المشاريع الكبيرة الابتدارية التي استعرضنا نماذج منها، لتوكل لمفوضية التنمية، تعتبر مشاريع “سُفن أميرال” (flagship projects) لأنها تؤسس لشروط تنموية جديدة وتتطلب استثمارا أوليا عاليا وضمن خطة كبيرة، ولذلك فمثل هذه المشاريع من الأفضل لها ألا تتبع لوزارة واحدة وإنما لقمة السلطة التنفيذية مباشرة (مع حق المساءلة والمراقبة والاستدعاء للسلطة التشريعية)، وهنا يكون دور المفوضية/الوكالة كذراع مستقل وتنسيقي لإنجاز هذه المهام.

وهذه الدفوعات اتسقت، عندنا، مع أحاديث أخرى عن شروط نجاح الديمقراطية في السودان، إذ ذكرنا في لقاءات سابقة، أثناء الفترة الانتقالية، وفي كتاب “ممكنات السودان” (2021)، إنه لنجاح الديمقراطية بالسودان، نحتاج لتلبية شرطين: (1) استعدال السياق الذي تعمل فيه الديمقراطية: الدولة العصرية والوعي الديمقراطي؛ و(2) تكييف الديمقراطية على الشروط الأساسية للواقع السوداني: التنمية واللامركزية. ثم قلنا إننا “حين نقول إن التنمية شرط للديمقراطية في السودان، فإننا أيضا عندما ننظر لحالة السودان تحديدا نقول إن الديمقراطية ضرورة سياسية للسودان، لأن السودان، كحالة، ليس بالإمكان إدارة دفة دولته بنجاح عن طريق مركزية عالية، وعليه فهو يحتاج اللامركزية ويحتاج نماذج أفضل قدرة في حوكمة بلاد شعوب ذات تنوع عالي (ثقافيا وتاريخيا وبيئيا)، ووفق هذه الشروط فإن الديمقراطية مهمة جدا للسودان، لكن باستيفاء شروطها، ومنها التنمية واللامركزية. ولذلك قلنا إن نموذج الدولة التنموية الديمقراطية أقرب ما يكون لطموحات وحاجة السودان.”

كما ذكرنا أن المفوضية سمّيت هكذا لأنها انتقالية، لكن في الأوضاع المستقرة يمكن أن نسميها وكالة – ونحن نقترح أن ننظر في إمكانية تحول المفوضية إلى وكالة عند نهاية الفترة الانتقالية، بعد تقييم لأدائها وإمكانات استمرارها وتطويرها. تلك الوكالة تكون لها سلطات معروفة وارتباط مباشر برئاسة السلطة التنفيذية (مثل نموذج وكالة التحول الزراعي في أثيوبيا أو هيئة الإسكان في سنغافورة) كما لديها اتصال وتقارير تُرفَع للسلطة التشريعية. وهذا التوجه مستمد من نموذج الدولة التنموية (developmental state)، وهو النموذج الذي استطاع تحويل عدة دول نامية في العقود الأربعة الاخيرة إلى دول متقدمة تنمويا وصناعيا.

عبر تحريك النقاش في هذه الأطروحة، تناولنا مسائل متباينة، منها محاولة فهم العلاقة بين التنمية والاستقرار السياسي، والعلاقة بين التنمية والديمقراطية (وهي العلاقة التي تعرضت لمراجعات عامة وتفصيلية في دراسات التنمية في الحقبة الأخيرة)، وتجارب الدول التنموية وأهمية تولي القطاع العام لقيادة دفة التخطيط الاقتصادي التنموي، والسياسات الصناعية باعتبارها في مقدمة السياسات التنموية في العصر الحديث. وعبر تناول تلك المسائل أتيحت الفرصة لعرض المزيد من الحجج التي تؤكد أولوية التنمية وأهمية التعبير عن تلك الأولوية في هياكل السلطة الانتقالية في السودان.

ننشد المواصلة في الدفع بهذه الأطروحة، لأهمية موضوعها، ولأننا نرى أن الأطروحة أفضل ما يعكس أهمية الموضوع….
——–

قائمة مختارة للمنشورات السابقة في القضية (قصي همرور)
[يمكن الاطلاع عليها عبر ضغط الوصلة]:

أضف تعليق