براءة الاختراع وبراءة التاريخ

ورقة علمية، تخصصية، في التاريخ والتكنولوجيا (وفلسفة العلوم)، نُشِرت مؤخرا (يونيو 2023)، وأحدثت ضجة نادرة في عالم الأوراق العلمية في هذا المجال (وهو مجال لا يحظى عادة بالكثير من الاهتمام والمتابعة خارج دوائرة الأكاديمية والمهتمة المحدودة). خلاصة الورقة، التي قدمتها الباحثة جيني بولسترود، أن إحدى براءات الاختراع المسجلة تاريخيا، من القرن الثامن عشر، والمهمة في تاريخ تطور الثورة الصناعية بأوروبا، تعود أصولها الموثقة ليس إلى الشخص الانكليزي الذي قام بتسجيلها لصالحه (واسمه هنري كورت، وهو صاحب أعمال ونواقل وأعمال تعدين) وإنما تعود إلى ما شاهده و”استقاه” من المهارة والخبرة المستقّلة في العِدانة metallurgy لعمّال الحديد السود في جامايكا (حيث مارس كورت بعض أعماله)، الذين كان جملتهم من المسترقين من غرب ووسط افريقيا، حيث تشير المؤشرات الآن إلى أن تلك العملية “الاختراع” في التعدين تُنسب في الأصل إلى هنالك [وصلة الورقة، وملخص لها، في آخر هذه المقالة].   

تمضي الورقة إلى أبعد من ذلك، إذ أنها توضّح أن تلك العملية التعدينية كانت صاحبة دور محوري في تطور صناعة الحديد وتأثيرها على أشكال عدة من هندسة الصروح وصناعات الماكينات الضخمة التي كانت صاحبة دور مهم في تمدد وتضخم الثورة الصناعية. يبدو أن الورقة أجرت بحثا استقصائيا تاريخيا قويا، وأحدثت دويّا ملحوظا، إذ في فترة لا تتجاوز الشهر من تاريخ نشرها حصلت على زيارات بالآلاف، وهو أمر نادر بخصوص المجال الأكاديمي والدورية العلمية المعنية، كما جاء الذكر. 

وهذا حديث ذو شجون فعلا، خاصة عند أمثالنا، الذين أنفقوا جزءا كبيرا من وقتهم وبحثهم في هذا المجال. في كتابات سابقة [خاصة كتاب “السلطة الخامسة: نحو توطين التكنولوجيا” (الخرطوم 2021) والكتاب السابق له “من أين تأتي التكنولوجيا (القاهرة 2015)] ذكرنا، من ضمن ما ذكرنا، أن تاريخ براءات الاختراع هو تاريخ لمحاولة تأطير وتخصيص وتسليع الابتكار البشري، الذي يصعب جدا تأطيره وتخصيصه وتسليعه من حيث الحقيقة، لكن ممكن طبعا من حيث القانون وكتابة التاريخ. فالثورة الصناعية هي حدث تاريخي جاء نتيجة تراكم تاريخي طويل سابق له، وقد شارك في هذا التراكم مجمل شعوب الأرض بحضاراتهم—هذا ضمن ما جاء في كتاب السلطة الخامسة. لكن هنالك ملابسات معينة بلورت ذلك التراكم في اوروبا وسميت وفقه بالثورة الصناعية—اهم تلك الملابسات هو ظهور وتطور المحرك البخاري في انكلترا.
——–

جاء في كتاب السلطة الخامسة: 

“كانت التكنولوجيا دوما عنصرا فاعلا وحيويا في حياة وتطور المجتمعات البشرية في التاريخ، في شتى بقاع الأرض. ما يسمى بالتكنولوجيا الحديثة (أو ما يصح تسميتها بالتكنولوجيا المعاصرة، أو العصرية، الآن) إنما هي ثمرة اختراق تاريخي في علاقة البشر بفهم موارد الأرض وقوانين المادة (علوم الهندسة والعلوم الطبيعية) اصطُلِح على تسميته بالثورة الصناعية. قبل تلك الحقبة كانت هناك تكنولوجيا وكانت هناك موارد وقوانين مادة، بطبيعة الحال، وكانت هناك اختراقات حصلت في التاريخ وساهمت فيها حضارات وشعوب متنوعة منذ بدايات مسيرة المجتمع البشري، لكن جميع تلك حدثت لها نقلة نوعية توفرت ظروف حدوثها في أوروبا القرن السادس عشر. مع تلك النقلة صارت الماكينة جزءًا رئيسيا في عملية الإنتاج لأنها صارت تقوم بوظائف أكثر تعقيدا في تلك العملية، وكذلك صارت هناك طاقة تحريكية للعملية الإنتاجية لا تفوق طاقة الإنسان والحيوان الفيزيائية فحسب بل يمكنها أيضا أن تستمر باستقلال عنهما لفترات غير قصيرة—تلك طاقة المحرك البخاري.  في عموم مجال علاقة البشر، في جميع الكوكب، بقوانين الطبيعة والآلات والأدوات، تشكل الثورة الصناعية علامة فارقة بحيث أن التحوّلات الهائلة التي جرت لجميع المجتمعات البشرية منذ تلك المرحلة وحتى اليوم (أي في حوالي أقل من خمسة قرون) تفوق كمّا ونوعا تحوّلات كثيرة حصلت في عموم الكوكب منذ بداية التاريخ المعروف لمجتمعات البشر وحتى مرحلة الثورة الصناعية (أي عشرات آلاف السنين في أقل تقدير)….ذلك التفوق التكنولوجي الفلكي في تلك الحقبة التاريخية نفسه ناتج عن عملية تاريخية طويلة ساهمت فيه حضارات عالمية عديدة عبر التاريخ (بالتراكم)، كما ذكرنا، إلى أن تبلور في ظروف معيّنة في أوروبا وانبثقت عنه الثورة الصناعية التي بدورها غيّرت علاقة الإنسان مع التكنولوجيا تغييرا شاملا لا رجعة منه.

….وبطبيعة الحال تطورت طاقة البخار كثيرا بعد السنوات الأولى من الثورة الصناعية، ودخلت طاقة الوقود الأحفوري المتنوع (بخلاف الفحم فقط كما في السابق) ودخل إنتاج الكهرباء عموما، ثم دخلت حتى الطاقة النووية وطاقة الموارد المتجددة (والتي تساهم جميعها اليوم، بصورة أو بأخرى، في إنتاج الطاقة الكهربائية التي صارت عماد المجتمعات المعاصرة). رغم الفرق الكمّي في مقدار الطاقة وحجم الفعالية بين المحرك البخاري حينها والمحركات والتوربينات والمولدات المعاصرة إلا أن هناك سلسلة نسب تقانية واضحة تنتهي للاختراق الذي دخل التاريخ بظهور المحرك البخاري.”
(الفصل الخامس)

 كما جاء أيضا، في الكتاب، حول أن عملية التحول التكنولوجي عملية تاريخية تراكمية بالضرورة: 

“لننظر سويا للخطوات التي مرّ بها المحرك البخاري:

  • في العام 1781 تم تسجيل براءة الاختراع للمحرك البخاري (جيمس واط). لم يكن أول تصميم لنفس فكرة الآلة، بل هنالك تصاميم سابقة له بعقود، لكن هذا تصميم محسّن وبدأ يُظهِر احتمالية جادة للاستعمال المنتج.
  • في عقد 1830 بدأ البخار بلعب دورا مهما في تشغيل الاقتصاد البريطاني. في تلك الفترة البينية جرت تحسينات وتطويرات كثيرة على تصميم واط.
  • في أواخر عقد 1870 أقل من مليون قدرة حصان horsepower [وحدة قياس للقدرة الكهربية، بحيث تعادل وحدة واحدة من قوة الحصان 746 واط] كانت تُنتج بواسطة الطاقة البخارية في المصانع والوِرَش في عموم بريطانيا العظمى.
  • في العقد 1880 أحدث المحرك البخاري نقلة “نوعية” واسعة في القطاع الصناعي البريطاني. 

إذن استغرق المحرك البخاري قرابة قرنٍ من الزمان كيما ينتقل من فكرة تقانية مقبولة وممكنة إلى ماكينات ذات دور رئيسي في الاقتصاد القُطري للمجتمع البريطاني. [كما أن] التحسينات التدريجية التي جرت للمحرك البخاري [احتاجت]، أكثر من مرة، لأن تنتظر ظهور اختراع أو ابتكار جديد آخر كيما تُضمّنه في تلك التحسينات، ولولا تلك الابتكارات المستقلة لما طرأت تحسينات على المحرك البخاري (مثل اختراع إسطوانات، أو سلندرات، أكثر دقة ساعدت جيمس واط في أن يمنع خسارة كمية كبيرة من البخار المتسرب في عمليات محركه).  وفي الصورة التاريخية العامة يمكن رؤية الكثير من الأمثلة على ذلك، فاختراع العجلة (the wheel) له صلة كبيرة باختراع طواحين الهواء، ثم المحرك التوربيني، إلخ.”
(الفصل الأول)

ثم جاء كذلك: 

“العبرة العامة من هذه الملاحظة هي أن النشاط الابتكاري نفسه عادة ما يكون عملا بطيء التطور ويعمل تراكميا، فحتى التحسينات التي تجري على تقانة معيّنة كثيرا ما تعتمد على تحسينات أخرى لتقانات أخرى بحيث أن تحسينات الثانية هي التي تؤدي لتحسينات الأولى، وهكذا بصورة تراكمية. إذا نظرنا إلى المحرك البخاري، كمثال على اختراع هام وكبير، يمكننا أن نرصد “اختراعات ثانوية” متعددة ساهمت في تحسين المحرك البخاري،  عبر نُسخات كثيرة وخلال فترة زمنية ليست بالقصيرة (أضف لذلك الوقت الذي احتاجته تلك الاختراعات الثانوية لكي يتم قبولها من المجتمع).”
(الفصل الأول)

أما عن صهر وتشكيل المعادن، فله تاريخ طويل جدا، جزء كبير منه يعود لأفريقيا. جاء حول ذلك في الكتاب:

“بجانب الحديث عن التحولات العظيمة التي ظهرت في حقبة الحضارة المرَوية – شرق الحزام السوداني – في التنظيم السياسي والتنظيم الزراعي وإعادة تشكيل الهوية اللغوية لأرض النوبة، تشير بعض الدراسات التاريخية لأن تقنيات تشكيل المعادن انتقلت على مدى الحزام، من الشرق للغرب، من نقطة انطلاقها من المصاهر المرَوية….  هذه الدراسات تصطحب أيضا الدراسات الأنثروبولوجية التي تدعم نظرية الهجرات الجماعية من شرق الحزام لغربه التي بدأت في نفس الفترة التاريخية واستمرت مع اضمحلال حضارة مروي…. [و] هنالك دراسات حديثة تقول إن خط انتقال تقنيات تشكيل المعادن على مدى الحزام السوداني لم يحصل من شرق الحزام لغربه، بل بالعكس من غربه لشرقه، في فترة تاريخية أقدم من الدراسات السابقة. عموما كلا الرأيين يقول إن ذلك الانتقال حصل داخليا حين نبع من داخل شعوب الحزام وتحرك عبر المنطقة من جهة لأخرى.”
(الفصل الثالث)
——–

عموما، ومن زاوية أوسع، فإن هنالك الكثير من المراجعات المطلوبة بخصوص نسبة الأشياء لمن تقول الوثائق الرسمية أنها منسوبة لهم. هنالك مثلا الحالة الشهيرة، لعالمة الفلك سيسيليا بين-قابوشكِن، والتي قدّمت في 1925 أطروحة أن الشمس والنجوم تتشكل إجمالا من الهيدروجين والهيليوم، فتم تسفيه أطروحتها لكونها تخالف المتعارف عليه في الدوائر العلمية وقتها، بينما قام لاحقا أحد الذين هاجموا وسفّهوا أطروحتها  – وكان من “كبار العلماء” في عصره – بادعاء “الاكتشاف” لنفسه، في ورقة نشرها. لحسن التوفيق، تمّ اكتشاف الأمر لاحقا وحظيت سيسيليا في نهايات حياتها المهنية بالتقدير والنسب المستحق لها (لكنها لم تشتهر مثل آخرين ساهموا مساهمات كبيرة كهذه). 

من أجل كل ذلك، نحتفي بالورقة المعنية كثيرا، فإن اعادة قراءة وكتابة التاريخ عمل مهم، وما زال هنالك الكثير لتعاد قراءته وكتابته. 
——–

وصلة الورقة العلمية: https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/07341512.2023.2220991 

ووصلة مقالة سيّارة عنها في صحيفة القارديان: https://rb.gy/8o90c 

أضف تعليق