الدولة العصرية والسودان: ‘لا بريدك ولا بحمل بلاك’

الذين عاشوا ويعيشون في السودان، في العصر الحالي، يجلسون في المقعد الأمامي في مشاهدة سيناريو فشل الدولة وانهيارها، كأحد السيناريوهات الواردة مع حالة أي دولة في هذا العصر–أي أن استقرار الدولة واستيفائها للحد الأدنى من شروط الكفاءة ليس أمرا مضمونا لأي دولة، فأي دولة مهددة بالانهيار في فترة وجيزة إذا عجزت عناصرها عن الاستمرار، لأي سبب من الأسباب؛ وهذا إجمالا وضع أي بناء حضاري بناه البشر في تاريخهم المكتوب، فأي حضارة دامت لفترة، طالت أم قصُرت، مرت بامتحانات ومحكّات، فإما تجاوزتها وإما فشلت ثم انهارت (وعادة بسرعة أكبر من الوقت الذي احتاجته لكي تبني نفسها وتصل لقمة سطوتها)؛ وفي النهاية، لا يوفّر لنا التاريخ أي نموذج لأي بناء حضاري استمر بدون أن ينهار يوما ما. في النهاية، كل البناءات الحضارية آيلة إلى زوال، أو تحوّل أو تطوّر. هذا الوصف ينطبق على نموذج الدولة العصرية، أو ما يسمى عادة مؤسسة/مؤسسات الدولة الحديثة، أو نُظـُم الدولة الوطنية [6]. 

لكن السودان وحده ليس حَكَما على فشل نموذج الدولة العصرية بصورة عامة، إنما هو فقط حالة من حالات فشل ذلك النموذج، وما يمكن أن يقود له (وهنالك حالات أخرى لذلك الفشل، كالصومال مثلا في أواخر القرن الماضي، وهايتي، وهنالك نماذج أقل حدة مثل بعض مناطق أمريكا اللاتينية في نفس الفترة المذكورة، مع اعتبار تعدد الأسباب والملابسات التي أدّت لكل واحدة من تلك الحالات). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن أفضل حالات نجاح الدولة، حول العالم، في أداء مهامها المتوقعة منها، هي أيضا حالات ناقصة، أي يمكن للمرء أن يرى فيها عيوبا ونواقص يمكن أن تكون أفضل، وذلك يعود إلى حقيقة أن نموذج الدولة العصرية ليس قمة طموح البشرية وليس قمة خيالها، وما ينبغي له ذلك، فأفضل دولة عصرية حاليا، في ميزان نموذج الدولة العصرية، هي قاصرة عن استيفاء ما نتوقعه ونصبو له من التنظيم الاجتماعي البشري. لكن، بطبيعة الحال، فإن هنالك تفاوتات في مستوى القصور–السودان حاليا يقف كنموذج لأبلغ مستويات القصور، أو مستوى فشل وانهيار الدولة، بحيث لا يصح عمليا أن نقول إن هنالك دولة سودانية (بينما قد يصح فقط من باب المجاز أو لغياب أي وصف آخر مقبول ومتعارف عليه)، كما أشرنا لذلك في كتابات سابقة.

وفق شروط العصر الحديث، ووفق السياق التاريخي الذي نحن فيه (أي المعطيات التي أوتيناها وفق حركة التاريخ ووفق وجودنا في هذا الكوكب في هذه الحقبة، وليس وفق اختيارنا الشامل كأفراد أو جماعات)، فإن نظام الدولة العصرية – الذي هو ربما أعقد صنيعة مجتمعية منذ بداية التاريخ البشري – شرطٌ للاستفادة من مزايا هذا العصر وللتقيّد بظروفه (والتقيد بظروفه شرط تاريخي للاستفادة من مزاياه)، أعنى الاستفادة للمجتمعات أو الشعوب المعاصرة.  لذلك فالتعامل مع الدولة العصرية يكون وفق هذا الواقع وفهمه، كما حاولنا التفصيل في كتاب “حوكمة التنمية” (2020، الخرطوم) [2]، وليس بالضرورة وفق سقف طموحاتنا أو أمانينا. نحن إذن أمام قضية نسبية وفق سياقنا التاريخي. في نفس الوقت، فإن الدولة التي لا تستوفي شروط الدولة الكفؤة، في هذا العصر، ليست غير مجدية للشعوب فحسب، بل تكون وبَالا عليهم، ولا تستحق الدفاع عنها أو عن أجهزتها (أو أشباح أجهزتها) إنما تستحق النقد وإعادة البناء (وإعادة البناء تتطلب بعض الهدم وبعض التفكيك، لأنك لا يمكنك أن تبني بنيانا جيدا فوق بقايا بنيان متهالك الأسس).

كتبنا كثيرا إمعانا في توضيح موقفنا من الدولة العصرية، وهو موقف لخّصناه مسبقا بعبارة “لا بريدك ولا بحمل بلاك” (استلافا من التراث الشعبي السوداني). عموما، نقول إذا كانت هنالك صيغة حالية، فعالة، للتنظيم المجتمعي الحديث، بديلة للدولة، وتستطيع اليوم توفير الإدارة والتنسيق الشاملين لنظم الخدمة المدنية والخدمات العامة والأشغال العامة (مثل تشغيل وصيانة محطات وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، وإنشاء وصيانة الطرق والجسور والموانئ، إلخ، وبقايا البنية التحتية) وكذلك النظام الصحي والنقل والمواصلات، وتنظيم متطلبات القطاع الصناعي والزراعي والتعديني، من بنى تحتية وشروط إدارية ومالية وفنية، وتنظيم قضايا العمل والتأهيل الفني والإداري لتسيير كل هذه النظم المتعلقة بحركة الناس والتكنولوجيا ومساعي العيش في المجتمعات الحديثة، أو التخطيط المدني والريفي، أو الإحصاء والأرصاد ومراقبة جودة السلع (مثل السلع الغذائية والاستهلاكية) أو التجارة الدولية والعلاقات الدولية (أي التي تقتضي التعامل مع بقية العالم بنظمه الحديثة)، أو الإدارة البيئية، أو تنسيق نظم الطيران المدني وحركة السفن والسكة حديد، داخل وخارج النطاق الجغرافي لسيادة المجتمع، أو ترتيب النظم العسكرية الحديثة (والتي بدونها لن تكون للدولة سلطة تنفيذية)، أو فض النزاعات بين الجماعات المسلحة، أو اتفاقيات مشاركة موارد المياه، والأجواء والمعابر، والاتفاقيات الإقليمية والدولية السياسية، وبروتوكولات العلاقات المتشعبة بين المجتمعات في هذا الكوكب (من مصالح ونزاعات وتبادلات)، أو التبادل المعرفي والبحثي بين المجتمعات من أجل التطور التكنولوجي والاقتصادي المستمر، وضمان المعايير والضوابط البحثية العلمية، وتنسيق قضايا التنقّل الدولي (السفر) والعمل والزيارات، إلى آخر ذلك من وظائف ومحاور الدولة العصرية…. إن كانت هنالك صيغة حالية، فعالة، تستطيع فعل ذلك، في هذا السياق التاريخي، بخلاف الدولة العصرية، فما أسعدنا بالاطلاع عليها وإعطائها ما تستحقه من الاعتبار الجاد.

وفي نفس الوقت، فإن ما قلنا أعلاه لا ينبغي أن يؤخذ كذريعة، أو مُحاجّة، أمام الجهود المهمة والمتنامية لزيادة السلطات والقدرات المحلية، أو اللامركزية، على مستوى التنظيم وعلى مستوى الإنتاج، وعلى مستوى توزيع المكتسبات والحاجات الأساسية بصورة أكثر عدالة وأكثر منطقية. هذان مجالان بينهما بعض التناقضات المفهومة، لكن بينهما كذلك منطقة تداخل وتكامل كبيرة، أي أن هنالك مساحة واقعية ومحترمة للسعي للحصول على الميزات الإيجابية للمجالين معا، عبر منطقة التداخل—عبر بناء نظم دولة كفؤة مع تقليل غلواء مركزيتها وزيادة مساحات ممارسة السلطة المحلية كلما كان ذلك ممكنا ومثمرا. هذه منطقة خصبة، ولم تجرّب كلها بعد، فيمكننا أن نستعين في التعرّف عليها وتجريبها بتوظيف الخيال والواقعية معا.

لذلك قلنا، في كتاب “السلطة الخامسة” (2021، الخرطوم) [3]، وفي محاولة لوزن الأمور بميزان منصف وعلمي، إن “الدولة إنما هي وليدة تناقضات حركة التاريخ (الدايَلكتيك)، فقد كانت هي المؤسسة التي كان لها القدح المعلّى في نقل الهوية الجمعية البشرية من المجموعة الإثنية (القبائل والبطون، الخ) والمجموعة العرقية والدينية إلى هوية بسيطة وموضوعية: الهوية الجيوسياسية [هوية المواطنة]. كانت الدولة أيضا جهازا مهما جدا في طرح وتثبيت السياسات والقوانين التي تحمي حقوق الإنسان وسيادة القانون الدولي [نسبيّا]. أيضا كان نظام الدولة، في حرصه على تعميم المعايير وأسس القياس والمراقبة، مهمّا جدا في تثبيت وتعميم قواعد البحث العلمي ورصد النتائج ونشرها وتقييمها، وبالتالي ساهمت الدولة مساهمة مهمة في جعل البحث العلمي نشاطا إنسانيا واسعا ومتصلا عبر المناطق والحدود واللغات. في نفس الاتجاه ساهمت الدولة، بنفس النسق، في تقدم التكنولوجيا، كما أوردنا من النماذج أعلاه، وفي شيء غير يسير من إعادة توزيع السلطة والثروة بين المواطنين (حين اتجهت لذلك). لكن، وفي نفس الوقت، أبقت الدولة دائما على جانب جبري وقهري من كينونتها، فرضت به نفسها بالقوة منذ بداياتها، إذ كانت امتدادا وتطورا طبيعيا لتيار السلطة الغاشمة في المجتمع (ولا ننسى أنها مؤسسة وُلِدت في رحم ممالك [معاهدة ويستفاليا في 1648م]).  مجرد وجود الدولة يتطلب احتكار السلطة الجبرية كما يتطلب تجريم أي عمل لا يتسق مع استمراريتها (بمعنى جعله جريمة في اعتبار القانون حتى عندما يكون ذلك العمل غير إجرامي في حقيقته من الناحية الأخلاقية). من جانب آخر قامت الدولة بتصعيد الصراع الطبقي وتكريس نزعات التسلط، كما غذّت الأيدلوجيات والأنظمة الفاشية، وخنقت الكثير من القوى الإيجابية والخلّاقة والتحررية في المجتمع…. وفي النهاية لا يمكن للبشرية أن تنفي الدروس والعبر، بجانب المكتسبات، التي ورثتها من تجربة الدولة،”

ثم قلنا، “لكن لا مفر لهذه البشرية من الوصول لخلاصة أنه لا يمكننا المضي قدما، في المستقبل، من أجل حياة بشرية أفضل وأعدل وأقوم، نحو تحقيق حريتنا وإنسانيتنا الكامنة كاملة، بدون ترك نموذج الدولة المعاصرة وراءنا كتاريخ، في يوم من الأيام. المجتمع الإنساني العالمي الذي تمكن من المضي خطوات كبيرة للأمام مصطحبا مؤسسة الدولة قادرٌ أيضا على تصميم نُظُم اجتماعية بديلة، أكثر كفاءة، تبني على التجارب السابقة وتتجاوزها. لكن الطريق نحو تلك النُظُم البديلة ربما يمر بمرحلة استعمال مؤسسة الدولة أفضل استعمال كيما تستنفد غرضها. الأنظمة والقوانين الحكيمة ليست هي تلك التي تبقى لتبقى، وإنما هي تلك التي “تخدم غرضها حتى تستنفده”، فتفتح الطريق لنقلة أخرى جديدة في مسيرة البشرية.”

وكلما زادت كفاءة الدولة العصرية، كلما ظهرت الحاجة لتجاوزها، وبرزت كذلك القدرات المحلية على ابتدار وتجريب نماذج تنظيم اجتماعي تقلل من قوة الدولة وتزيد من قوة المجتمعات التي شبّت بنيتها التحتية والفوقية عن طوق الدولة. لكن بالنسبة للمجتمعات والبلدان النامية، والتي تعاني حتى الآن من مشاكل تنموية وبنيوية مرتبطة بهشاشة الدولة، فالحديث عنها مختلف، إذ كما قال نيريري، في 1998، في قضية الدولة التنموية، إن الطبيب الحكيم لا يقدّم نفس النصائح الصحية بخصوص الغذاء والحمية لنفرين أحدهما يعاني من السمنة والآخر يعاني من الهُزال.  

لذلك، قلنا في كتابات سابقة [4] أننا مع الدولة التنموية، كمطية تاريخية مهمة لتنمية وتحرر المجتمعات النامية. “الدولة التنموية (developmental state) هيكلها العام وبرنامجها الحوكمي الأساسي مربوط بالتنمية؛ وتعني تدخّل الدولة المباشر في أنشطة وخطط التنمية. تقوم الدولة التنموية بالإمساك بدفة القيادة للاقتصاد بحيث تنظّم قوى البلاد وفق رؤية تنموية—تلك الرؤية تقول الدراسات ذات الصلة إنها عادة ما تكون معنيّة بتوسيع الفوائد التنموية لتشمل قطاعا واسعا من السكان وتبتعد عن تلبية مصالح فئات ضئيلة فحسب. ورغم أن معظم نماذج الدولة التنموية في العالم تتبع خط “الاقتصاد المختلط” (mixed economy) – رغم أن بعضها يتسمى بالاشتراكية، أو بالطموح للاشتراكية – إلا أن أهم معالمها القريبة من الاشتراكية هو توسيع الحصول على الفوائد التنموية وضبط قوى السوق حتى لا تطغى على الأهداف التنموية العامة.” نحن مع الدولة التنموية (وخاصة الدولة التنموية الديمقراطية) كإطار للدولة التي نريدها، ومع التنمية كمشروع وطني للتغيير…. لكن ينبغي أن لا يُفهَم موقفنا هذا على أنه انحياز أعمى لنموذج الدولة، أو تنزيها خياليّا لها، بل نقول ما قلناه أعلاه ونحن من بين أكثر الناس نقدا لهذا النموذج، وربما من بين أدوَمهم نظرا في عيوبه ومشاكله الخطيرة والمتنوعة.

ولذلك نردد، مع الأستاذ محمود محمد طه، “وليس من شك عندي أن تطور الجماعة سيطّرد حتى يجيء اليوم الذي تبطل فيه الدولة، كما نعرفها الآن، من السطوة، والقوة، بحيث تصبح عبارة عن جهاز لا يعدو نفوذه تنسيق جهود الجماعات المحلية المختلفة، في كل متسق.” (1953، جريدة صوت السودان) [1].

يُقرأ المقال أعلاه ضمن جملة كتاباتنا المتعلقة بالحوكمة والتنمية، وقضايا التحول التكنولوجي والسياسات الصناعية، وقضايا الحراك الاجتماعي-سياسي من أجل تحرر الشعوب وتحسين معاشها ومناهضة هياكل التوزيع المجحف للسلطة والثروة، والامتيازات إجمالا، في المجتمعات المعاصرة (وامتداداتها التاريخية). يقرأ أيضا مع كتابات أخرى نشرناها في الظروف الحالية التي يمر بها السودان (مثل مقال: “دَوِي السلاح وصخب الساسة: الراهن والثورة في السودان” المنشور في 22 أبريل 2023)؛ أي أن هذا المقال مساهمة متصلة للتأمل في هذه القضايا بصورة موضوعية، عميقة، في هذا الوقت الذي ندرت فيه النظرة العميقة والاستثمار الاستراتيجي في المسيرات الكبرى للشعوب، وانتشرت فيه المواقف والتحليلات قصيرة النظر، أو التي نفذ صبرها (بحق أحيانا وبغير حق أحيانا)، خاصة في السودان هذه الأيام…. وللحديث شجون.


بعض مراجع ومنشورات سابقة:
[1] محمود محمد طه، 1953، “خطاب إلى المحامي العام في الباكستان بشأن دستور الباكستان والقرآن”، جريدة صوت السودان.
[2] قصي همرور، 2020، حوكمة التنمية: قضايا وأطروحات. الخرطوم: هيئة الخرطوم للصحافة والنشر.
[3] قصي همرور، 2021، السلطة الخامسة: نحو توطين التكنولوجيا. الخرطوم: دار جامعة الخرطوم.
[4] قصي همرور، 2022، دولة الرفاه والدولة التنموية: أيهما نريد؟ صحيفة التغيير الالكترونية في 21 و22 أبريل

[5] Graeme Gill. 2003. The Nature and Development of the Modern State. New York: Palgrave Macmillan.
[6] Julius  K. Nyerere. 1998. Address by Chairman of the South Centre, to opening of conference on ‘Governance in Africa. Addis Ababa, March 2.

 

 

أضف تعليق