“الخط البيانى فى اتجاه وعي الشعب باستمرار صاعد، ومن حسن التوفيق وعي الشعب صاعد ووعي القادة والحكومات نازل! لكن الخط البياني ده، ليصعد أكثر، بيحتاج فى بعض الأحيان أن يكون فى ضغط على الشعب من الحكومات. لكن الحكومات البتضغط على شعبها هى من الغفلة بمكان… السيل بِتجمّع خلف السدود قطرة، قطرة؛ الموية بتتجمع سرف؛ البيجاي للسد ما بِتصوّر بهناك فى حاجة حاصلة، لحدي ما الموية تبلغ حد بتشيل أو تجتاح السد وتجي ماشة“
محمود محمد طه
“حين ننتفض ونثور، لا يعود سبب ذلك إلى وجهٍ ثقافي معيّن. إنما نثور لأننا ببساطة، ولعدة أسباب، لا نعود قادرين على التنفس.”
فرانز (إبراهيم) فانون
ستحاول هذه المقالة الوقوف على مسافة متساوية بين التجريد والتخصيص، لنسأل سؤالا عاما، مهمّا: متى تثور الشعوب؟ وسنحاول الإجابة على السؤال عن طريق استبانة السودان كحالة، باعتبار ثورته الشعبية الأخيرة (والتي تبلور حراكها في ديسمبر 2018 وما زالت مستمرة لحظة كتابة هذه السطور، أواخر يناير 2019).
والإجابة العامة على هذا السؤال هي: الشعوب تثور حين تختنق. واختناق الشعوب عادة لا يكون بسبب جانب واحد من جوانب حياتها، وإنما بفعل تراكمات متعددة ومتنوعة. من النادر أن يقود وجه واحد من أوجه حياة الناس إلى قيام ثورة شعبية، إذ في الغالب تتراكم عدة أوجه، بعضها فوق بعض، وتصبح الحياة وفقها غير محتملة فعليا.
وهنا ينبغي تمييز الثورات الشعبية، إذ ليست كل ثورة شعبية، وليس كل انتفاض وغضب جماهيري ثورة (حتى لو قاد لتغيير سياسي)؛ الثورة الشعبية إحدى صنوف الثورات الاجتماعية-سياسية. إذن لدينا تعريف عام وتعريف خاص: التعريف العام لماهية الثورة عموما، والتعريف الخاص يتعلق بإذا ما كانت الثورة شعبية أم صنف آخر من الثورات.
سنقدّم تعريفا للثورة هنا هو تعريف إجرائي، لان تعريف الثورات وتصنيفها أدب كبير ومليء بالحجاج والتفاصيل. نقول إن الثورة تغيير نوعي في الأوضاع العامة لأي مجتمع (مقارنة بالإصلاح كونه تغيير مقداري)، مع احتمال تعدد أدوات ومصادر ذلك التغيير. أما داخل تصنيف الثورات، فإن الثورة قد تتم بدعم جماهيري واسع وقد لا تتم بذلك الدعم وإنما بعمل منظّم من جهة معارِضة مقتدرة. وصف ماوتسي تونغ الثورة بأنها تغيير تنتزع فيه طبقة السلطة من طبقة أخرى، بوسائل تتسم بالعنف والتصفية لأوضاع وامتيازات ما قبل الثورة. بالنسبة لنا فإن تعريف ماوتسي تونغ هذا إنما يخص صنفا من صنوف الثورات وليس تعريفا للثورة عموما أيا كانت. تعريفنا للثورة عموما هو التغيير النوعي، كما ذكرنا أعلاه، وبناء على ذلك فقد تكون الثورة جماهيرية الدعم وقد لا تكون، كما قد تتسم بالغلبة المادية الكاملة، كالانتصار المسلّح وتصفية النظام السابق – مثلما حدث في الثورة الكوبية أو الثورة الصينية أو الثورة البلشفية – لكن ليست كل الثورات تتّبع هذا الخط ذي النهايات الدرامية بالنسبة للطرف الخاسر، بل بعضها تتم بتحولات سلمية (نسبيا) وقد لا تقتلع السلطة السابقة اقتلاعا من الجذور – مثلما حدث في ثورة أكتوبر السودانية القديمة، وثورة يناير المصرية الحديثة (والتي أُجهِضَت لاحقا، كدليل على أن الثورات عموما يمكن إجهاضها وسرقتها، سواء كانت شعبية أم غير شعبية).
نعود للتركيز على الثورة الشعبية. هي عموما، وسط الثورات، تتم بدعم جماهيري واسع، ووفق تشكّل كتلة حرجة من عموم الشعب قادرة على قلب الأوضاع بحيث تقوم بتغيير جاد وواسع في طاقم الحكم وفي سياسات الحكم (أي تغيير نوعي)، بحيث يمكن للشعب على الأقل أن يتنفس من جديد. لكن هنالك مسألة مهمة بخصوص هذه الثورة، وهي عامل الزمن. حسب ما يمكن قراءته من التاريخ، من الصعب تحديد الثورة الشعبية بنافذة زمنية معيّنة – إما نجحت خلاله أو هي ليست بثورة، أو هي ثورة فاشلة – فبعض الثورات الشعبية قد تحصل على امتداد زمني يصعب تحديده، لكن يمكن قراءته والإحساس به. ولعل هذا الوصف يصاقب ثورة الشعب السوداني التي بدأت في ديسمبر 2018.
بالنسبة لما جرى في السودان، منذ ديسمبر 2018، وقبل أن نعرف نهاياتها، يمكن أن نقول إن هذه عناصر ثورة شعبية ممتازة. ونقول ذلك باختصار لتوفّر عاملين واضحين: اختناق الشعب، والدعم الجماهيري الواسع، المتجه ناحية التغيير النوعي. سواء نجحت هذه الثورة في تحقيق هدفها الأساسي أم لا ينبغي تسجيلها في التاريخ السوداني كثورة شعبية جديرة.
أدناه، سنتناول كلا العاملين بما توفّر لنا من الوصف والشرح، وهو عمل لن يخلو من قصور مريع، لان الأحداث والظواهر التاريخية الضخمة كهذه لا يصح في العادة تناولها بالدراسة النقدية الحقة إلا بعد انتهائها، من أجل استبانة كافة العوامل والأحداث؛ لكن قيل إن لكل قاعدة استثناءاتها.
اختناق الشعب
اختناق الشعوب لا يحصل في العادة لسبب واحد، بل لأسباب عدة ومتراكمة. لا يكفي القمع السلطوي مثلا فقط لخنق الشعوب بما يكفي ليجعلها تثور (وهذه نقطة قد لا يقبلها البعض لكن التاريخ يوضحها)، لأن بعض الأنظمة الحاكمة قد تكون قمعية لكن جادة في تحقيق خطوات ملموسة في التنمية والبناء والاستقرار العام، وهو ما يمكن تسميته بمزج الحق والباطل، لكنه مزيج يمد من أعمار تلك الأنظمة على أي حال وتحصل خلالها تطورات ذات قيمة رغم الأشياء الأخرى. كما قد لا يكفي التدهور الاقتصادي وارتفاع الديون فقط لخنق الشعوب، كما لا تكفي الحروب الأهلية (فهنالك بلدان مرّت بحروب داخلية وخارجية ولكن أنتجت معادلات إنتاج وعمل ضمنت استمرار الأنظمة الحاكمة لزمن مقدّر)، أو غياب الأمن العام على النفوس والأملاك، أو استفحال نسبة الشحونات الطائفية والإثنية داخليا، إلخ. تختنق الشعوب عادة بسبب تضافر عوامل شتى من هذه المذكورة، وغيرها، وبنسب متفاوتة تبلغ في محصّلتها ذروة من البؤس. عندها تثور الشعوب. (وذلك غير الثورات التي تقودها مجموعات محدودة ومُعرّفة من السكان كما ذكرنا أعلاه). السودان أحد أفضل النماذج المعاصرة لاختناق الشعب. أدناه سنحاول جرد العوامل الكبرى، المتضافرة، جردا مختصرا، والتي أدت لاختناق الشعب السوداني. وينبغي التوضيح أن ما سيكون أدناه ليس بالضرورة جرد حساب شامل وإنما تركيز، قدر الإمكان، على المسائل التي تؤثر فعليا على علاقات الشعوب وحكوماتها:
الاقتصاد السياسي: الاقتصاد الريعي الذي عاش عليه نظام الكيزان في السودان – بقيادة الطغمة التي اقتلعت الحكم في يونيو 1989 – منذ تسعينات القرن الماضي لا يمكن الحفاظ عليه إلا بسطوة سياسية وقمع متكرر. هذه خلاصة تاريخية، ومشهودة عموما في معظم البلدان التي يشكل ريع الأرض ومواردها الخام المصادر الأولى لثروة الدولة. لذلك فأحد المؤشرات التي كان يمكن قراءتها منذ فترة حول ارتباك هذا النظام هو ارتباط هذا الاقتصاد الريعي، باعتبار أن الاقتصاد السياسي أكبر عامل، عموما، في تحديد لياقة أنظمة الحكم ومناسبتها لظروفها التاريخية. كذلك مستويات دخول الافراد – وخصوصا الطبقة الوسطى، المهنية عالية التأهيل نسبيا – مؤشر رئيسي في الفترة الزمنية الحاضرة، على مستوى الكوكب، على الأداء الاقتصادي فعليا للدولة وأثر ذلك الأداء في المجتمع والسوق (يرجى مراجعة توماس بيكيتي، كتاب “رأس المال في القرن الواحد والعشرين”). أحد المؤشرات الأساسية لبؤس الاقتصاد السوداني مستويات دخول هؤلاء. حتى حجم الاقتصاد الذي زاد، في الدولة السودانية في السنوات الأولى من الألفية الثالثة (بواسطة الريع)، من الواضح بالأرقام أن الشعب لم يلمس منه شيئا ذا بال بسبب الفساد البالغ وغياب أي عدالة اقتصادية. وهو أمر واضح في مسألة الأجور، إذ أن السودان اليوم ثاني دولة في العالم أجمع من حيث تدنّي الأجور، لا تتفوق عليه أي دولة أخرى غير سيراليون، لكن مع حساب حجم اقتصاد وسكان سيراليون مقارنة بحجم اقتصاد وسكان السودان نجد أن السودان فعليا الأول في العالم من حيث تدني الأجور، كما تم توضيح ذلك في التوعية العامة التي قام بها تجمع المهنيين السودانيين عن وضع الأجور في السودان. وعموما فالضائقة المعيشية الأخيرة، غير المحتملة، ما كانت إلا القشة التي قصمت ظهر البعير لكن ذلك إنما لأن البعير كان مسبقا يحمل حملا ثقيلا ولا يستحمل حتى قشة إضافية.
القمع السياسي والأمني: القمع والقهر الذي مارسه هذا النظام يفوق سوء الظن العريض. وقد يظن البعض أنه نسبيا لا يساوي قمع أنظمة أخرى وقهرها لشعوبها، لأنه رغم أنه يعتقل ويختطف ويعذّب المعارضين السياسيين، ورغم أنه يجابه المعارضة المدنية السلمية بالعنف الذي يصل لدرجة قتل بعض المتظاهرين والمعتقلين والمحتجين والمحتجات، إلا أنه هنالك أنظمة حكم أخرى أكثر من نظام الكيزان قسوة وحسما منه في التعامل مع الاحتجاج العام، وهي عموما تستمر في الحكم لفترات طويلة وتكاد تنفذ الكثير من برامجها الأيدولوجية. لكن هذه نظرة مختلة للواقع، لأنها تنظر لمعاملة نظام الكيزان لأهل المركز فحسب، إذ أنه حرفيا قام باستخدام كامل ترسانته العسكرية لإبادة وقتل وتشريد نسبة كبيرة من مجموع المواطنين السودانيين في الهامش، كما أنه يتعامل معهم بعنف أكثر بكثير حتى داخل مدن وبلدات وسط السودان حيث لا يشهد معظم المواطنين قبح النظام وشراسته كاملة. نظام الكيزان بلغ المبالغ في القمع والقهر لشعب السودان وامتهان دمه وكرامته وعرضه.
الدمار وإزهاق الأرواح: الحروب التي خاضها النظام ضد مجموعات سودانية واسعة كذلك. والحروب وحدها لا تقود لخنق الشعوب، ولا حتى الحروب الأهلية (ولدينا نماذج من أوروبا وأمريكا التي تطورت تكنولوجيا وعسكريا في عهد الحروب، ثم استعادت توازنها الاقتصادي بسرعة نسبية بعد نهاية الحروب. ولدينا نماذج أخرى لبلدان استفادت من الحروب، مثل استفادة الولايات المتحدة اقتصاديا وتكنولوجيا من الحربين الأوروبيتين “العالميتين” والحرب المكسيكية-الأمريكية قبلهما). لكن نظام الكيزان برع في دفع الكثير لحمل السلاح ضده، لحماية أنفسهم وحقهم في الحياة وقدرٍ من الكرامة. وإذا دخلنا في تفاصيل رداءته في حل المشاكل، وبراعته في افتعال المزيد منها، وتبذير الأغلبية المهولة من موارد الدولة على ما سُمّي بالقطاع الأمني والقطاع السيادي، وفشله في إنهاء النزاعات، وسوقه لجميع أسباب انفصال الجنوب سوقا، فلن نفرغ من هذه المقالة. لكن، رغم هذا، فإن هذا النظام ضعيف وليس قويا، كما ذكرنا من قبل في كتابات سابقة، وكما ذكر آخرون غيرنا، لأن مظهر قوّته ليس من داخل بنيته (وإلا لكان ظهر في تجليات الحوكمة الأخرى والأداء التنموي وليس في الجانب الأمني والعسكري فحسب) وإنما للأسف بسبب ضعف المعارضة. نحن نفترض قوة هذا النظام بسبب قدرته على البقاء، لكن الطرف الثاني من المعادلة – قوة المعارضة – له دور في طول هذا البقاء. تخيّلوا نظاما معاصرا يخصص ثلثي ميزانية الدولة ناحية ما يسمّى بالقطاع الأمني (الحربي أصوَب) ثم هو لا يكاد يكسب معارك حقيقية مع حركات مسلحة محدودة الموارد وتنتهج نهج حرب العصابات، وهو كذلك نظامٌ لا يكاد يغطي عوراته الأمنية في المدن والبلدات التي يضع فيها تكثفا عاليا لكوادره الأمنية (وربما كتائب ظله) إذ يلجأ للكذب الواضح واختلاق الروايات والهمجية في الاعتقالات وتلفيق التهم وما إلى ذلك من التصرفات العشوائية. في قاموس الأنظمة الأمنية القوية هذا ما يسمى لعب عيال.
المشروع الحضاري المزعوم: يضاف لذلك تضييق نظام الكيزان على الشعوب في حياتها اليومية، لدرجة أن الناس لا يستطيعون الخروج من بيوتهم – ولا حتى البقاء داخلها – مع ضمان ألا يصلهم عناصر النظام ويهينوهم ويذلوهم في أرضهم (على سبيل المثال، قامت حملة حكومية جادة، بإعلامها وعسسها، لمنع المواطنين من حضور شروق الشمس في أماكن عامة ذات طبيعة ترويحية، واخترعت في سبيل تبرير ذلك التضييق المبالغ على المواطنين شتى التبريرات المثيرة للشك في سلامة عقول أصحابها، في حادثة لعلها لم تحصل سوى في السودان في هذا العصر، وهذا فقط نموذج للحالة العامة). أيضا تفوّق هذا النظام على الكثير من أقرانه في بند محاربة النساء وتضييق حياتهن وإذلالهن، بصور موثّقة ومشهودة. والدكتاتور عمر البشير – الذي قام عموما بتصفية معظم منافسيه على السلطة العليا من داخل سلة الكيزان – ينبغي القول إنه على قدر من الدهاء والعناد، جعله يبقى في السلطة طيلة هذه الفترة رغم كل الظروف، لكن دهاءه كله موظف في الحفاظ على السلطة بدون فلاحة في معرفة ماذا يفعل بها (بل يمكنه التضحية بأي شيء يخص مصالح البلاد والشعب مقابل الحفاظ على تلك السلطة، وبحربائية شهدتها ووثّقتها المحافل داخل وخارج البلاد). هذه وصفة كارثية أظهرت إفلاس النظام ككيان حوكمي وذي رؤية بناء مزعومة (ما سمّي بالمشروع الحضاري). اتّضح أنه لا يوجد أي مشروع حضاري ولا ترتيب متوسط القدرات لمعنى الحوكمة الناجحة. موازنات القوى التي لعبها البشير بعد ذلك، ليضمن استمراره، لا تهم كثيرا لأن فشل الحوكمة أصدق بيانا.
أحوال التنمية البشرية: صار السودان خانقا وطاردا لأهله، حسّيا ومعنويا؛ وفعلا كانت إحدى نتائج ذلك هجرة ضخمة للكفاءات المهنية المهمة لأي عملية بناء حقيقية. يقول تقرير عالمي حديث إنه “في بعض مناطق افريقيا جنوب الصحراء، وفي أمريكا الوسطى، أحيانا أكثر من نصف الخريجين الجامعيين يهاجرون إلى [البلدان المتقدمة]، مع احتمالات عواقب خطيرة على القطاعات الحرجة مثل التعليم والصحة والهندسة.” والسودان عموما حالة ممتازة لهذا النمط العالمي. إذا نظرنا للأمر من ناحية التخطيط التنموي، لا يُعقَل أن نتحدث عن حاضر ومستقبل مشرق للسودان بدون تناول هذه المشكلة الحرجة. وبعض الناس، من محسوبي نظام الكيزان أو القلة المتعاطفة معه، يحاول المحاججة بالأرقام، حول أن بعض الأوضاع الأساسية للشعب السودانية تحسنت منذ استلام جماعة “الإنقاذ” للحكم وحتى الآن، عبر ثلاثة عقود. أرقام مثل عدد المؤسسات التعليمية، ونسبة التعليم وسط البالغين (الكم طبعا وليس النوع)، وإتاحة المياه النظيفة لنسبة أعلى من السكان، وحتى إتاحة الكهرباء، وعدد المستشفيات (كميا لا نوعيا) والكادر الطبي المتخرج من السودان (بغض النظر عن حجم المغادرين للسودان منهم بمعدلات مهولة سنويا)، ومساحة الشوارع المسفلتة والبنية التحتية، إلخ. كل هذه أرقام جرت لها زيادة فعلا منذ 1989 ولم تبق مثل ما كانت وقتها. لكن بطبيعة الحال هذا تضليل بالأرقام والإحصائيات عن الواقع، لأن الصورة الكبيرة تقول إن السودان خلال ثلاثة عقود تقهقر كثيرا عن ركب التنمية مقارنة ببقية العالم؛ أي أن معظم بقية البلدان أنجزت في شأن التنمية – في الأرقام المذكورة أعلاه وغيرها – أكثر من السودان جملة، نوعيا وكميا، لدرجة أن السودان صار اليوم في ذيل معظم القوائم الإيجابية حول التنمية في العالم وفي مقدمة معظم القوائم السلبية حول الفشل الحوكمي والتنموي، والفساد، في العالم. وبذلك يكون التعذّر بمثل هذه الأرقام شبيها بالمتسابق الأخير في سباق ماراثون إذا قال إنه منذ نقطة الانطلاق قطع شوطا كبيرا وإن ذلك نجاح واضح، في حين أنه أتى في المؤخرة لأن الأغلبية قطعوا أشواطا أطول منه في نفس الفترة. كذلك أحيانا يتعذّر منسوبو النظام والمتعاطفين معه بحجة التضييق الذي لقيه بسبب الحصار الأمريكي، لكن هذا أيضا لن يكفي لتغطية عورة نظام الكيزان، لأن هنالك بلدانا أخرى تعرضت لنفس ذلك الحصار وأكثر منه، ولفترات أطول، لكن أوضاعها التنموية والحوكمية العامة أفضل من السودان بكثير، مثل كوبا وإيران.
باختصار، السودان في العقود الثلاثة الماضية قصة فشل تنموي وحوكمي واجتماعي واسع وغائر. قصة حكم فاسد (kakistocracy) بامتياز، حيث تولى أمر الناس أقلهم تأهيلا فنيا وأخلاقيا. ولولا بعض المخدرات التي استعملها نظام الكيزان لتمديد بقائه في السلطة – مثل التخدير عن طريق العاطفة الدينية، وتذكية الهوس الديني، وعن طريق التخويف بافتعال احتمالات الخطر الأكبر لو سقط النظام – ولولا أن النظام نفسه حظي بفرص كبيرة لإنقاذ نفسه من الوحل – مثل فرصة استخراج البترول، التي أدت لتحسن نسبي ومؤقت في الاقتصاد لبعض الوقت، وفرصة اتفاقية السلام الشامل التي أفسدها بنفسه ويلوم عليها الآخرين، وفرص الاستثمارات الأجنبية والديون التي امتصها وتراكمت على كاهل البلاد بدون ناتج ملموس – لما كان لنظام مثله، في أي مكان آخر في العالم، أن يستمر طيلة هذه الفترة وهو فاشل في كل شيء ذي قيمة، فشلا ذريعا. نظام الكيزان ضيّق على السودانيين سبـُل حياتهم في كل وجه من وجوهها، الأمر الذي راكم عليه الحنق وسط الناس. أيضا فإن استخدامه الطائش للقهر والقمع، وجعلهما سمة عامة في حال البلد، كان لا بد أن يراكم الثأر الجمعي إلى أن ينفجر يوما في وجهه. والشعب السوداني لا يحمل في تاريخه قبولا طويلا لسلطة مركزية غاشمة، وهو شعب مليء بالموارد البشرية الفتية وبالثراء في التجارب المتنوعة بحيث يستطيع فعلا أن يجمعها في سمط واحد وينجز بها تحولات وتنمية ضخمة لأرضه ولنفسه، إذا توفرت الإرادة والرؤية الواضحة. لكن القيادة الفاشلة له حالت دون ذلك حتى الآن. انطبق على هذا النظام ورموزه قول الشاعر:
ومما يزهدنى فى أرض أندلسٍ أسـمـاءُ معتضـدٍ فيها ومعتَـمَـدِ
ألقاب مملكةٍ فى غير موضعها، كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ
كل ذلك الفشل الصارخ، والذي يُعدّ أحد أكبر صور الفشل الحوكمي في العالم المعاصر، إنما هو في المحصّلة استدعاءٌ لقوى التاريخ كيما تستبدل نظاما كهذا قعد بشعبه لعقود وفقد كل مبررات وجوده، وإن كان استبداله ذلك سيؤدي لفوضى مؤقتة (كسيناريو محتمل) لكن ستتحرك الأمور بعدها، بعد الركود والتقهقر العام – اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا – الذي سبّبه هذا النظام. قانون الحراك التاريخي لا يسمح باستمرار هذا الركود العام، الذي مثّله نظام الكيزان في السودان، لفترات طويلة في أعمار الشعوب؛ لأن الشعوب تختنق، وهي حين تختنق تثور.
الدعم الجماهيري الواسع
من يطّلعون على تاريخ الحركات العمالية عالميا، وحراك المجموعات المدنية ذات القضايا المطلبية عموما، وكيفيات شغلها التنظيمي القاعدي في مواجهة عسف السلطة في القضايا المطلبية (التي تتطور أحيانا لتصبح قضايا سياسية عامة)، وطبيعة الاحتجاج والعصيان الميداني والمواكبة اللامركزية للأحداث، التي تعلمتها وما زالت تتعلمها هذه الحركات، يمكنهم الوصول لخلاصة أن تجمع المهنيين السودانيين، الذي لمع نجمه في السودان مؤخرا – وهو جسم تحالفي مهني مستقل، تكون في عام 2016 من عدة مجموعات مهنية سابقة له تسعى لاستعادة حقها في التكوين النقابي بالإدارة الذاتية وتفعيل العمل النقابي لتحسين أوضاعها وأوضاع بيئة العمل العامة – جسمٌ مناسب انتخبته الظروف والطموحات الشعبية الحالية ليكون مكبّر صوت، وعروة حبل، ومظلة استراتيجية لقوى التغيير في فترة مصيرية، تتخذه لترجمة أشواقها وتنسيق جهودها للخروج الجماعي من بئر نظام الكيزان. تجمّع المهنيين صار واجهة تاريخية لتجلّي الدعم الجماهيري الواسع لإرادة التغيير، وهو الشرط الثاني لقيام ثورة شعبية.
البعض، من المدمنين لممارسة النشاط السياسي المألوف، غير المبتَكَر، انزعجوا من ظاهرة تحلق الناس الغريب، الفجائي، حول تجمع المهنيين، ثم هو تنظيم لا يعرفون له واجهة/قيادة شخصية محددة أو مقر معيّن أو عضوية رسمية محصورة يشيرون لها بالسبابة. الانزعاج إما لصعوبة توجيه النقد السياسي المعتاد للتنظيمات السياسية في هذه الحالة أو صعوبة معرفة خصمك السياسي. والحق يقال إنه، مثل التأييد العام الذي وجده تجمع المهنيين من الجماهير السودانية، بقطاعاتها وقواها السياسية المتباينة والمتعددة، أمرٌ نادر الحدوث في هذا العصر. تجمّع المهنيين تنظيم ذو طاقة كامنة كبيرة، وقد أظهر ذلك في الأسابيع الأخيرة. لكنه موضوعيا ليس تنظيما ضخما ولا موارده ضخمة ولا خبرته خبرة مخضرمين حتى الآن (مع اعتبار تكوّنه من أجسام سابقة له). ما يميّز التجمّع أنه نهض لأمرٍ أعجز بقية أجساد المعارضة المدنية الأقدم منه لكنها أضعف منه، تنظيما وشكيمة. وفي المقابل هنالك نظام حاكم غير قوي في واقع الأمر، بل ضعيف في الحسابات الموضوعية. إذن، فإن تجمّع المهنيين طاقة كامنة ظهرت وأثبت فعاليته وتميّزه في مناخٍ يملؤه نظامُ ضعيف يتنمّر ويستعرض عضلاته طيلة هذه العقود لمعارضة أضعف منه.
ومن الطبيعي ظهور المشككين في التجمّع، ومن الطبيعي ظهور النقد له (أحيانا بوجه حق وأحيانا بدونه)، فالسودانيون شعبٌ تعلّم الشك في التنظيمات الكبيرة التي كثيرا ما خذلته. تفسير ذلك عندنا أن التجمّع انتخبته الظروف انتخابا سلسا، بقوانين الحراك التاريخي، ليلعب هذا الدور في هذه المرحلة، والتي لها ما بعدها. وقد ينمو التجمّع كممثّل لإرادة التغيير الشعبية هذه حتى تبلغ الثورة مطامحها، وقد تؤدي مجريات الأمور إلى تغيّر في الأدوار بحيث تظهر أجسام جديدة تحمل الشعلة من التجمّع، أو تتشاركها معه، وتواصل المشوار نحو غايته. بيد إنه يمكن أن نقول إن ما جرى، حتى الآن، أن الجماهير استمدت الكثير من طاقتها وعزمها من ثقتها في تجمع المهنيين، وكذلك استمد التجمّع جلّ طاقته وعزمه من ثقة الجماهير فيه. هذه الثقة الكبيرة، المبنية داخليا ومتجددة الطاقة ذاتيا، محرك تغيير جبار لآلية التغيير الاجتماعي-سياسي، لا يمكن أن تعود الأمور بعد ظهورها كما كانت قبلها.
الاستمرار في النقد البنّاء لأداء التجمع أمر متوقّع، والتغاضي عن اتجاهات الملامة غير المبررة والتبخيس له أيضا متوقّع. وكما قيل من قبل فالتقييم الشامل للأحداث والأدوار يأتي لاحقا ويكاد يكون مستحيلا أثناء وطيس المعركة نفسه.
وعموما فما نعنيه بالدعم الجماهيري الواسع لا يعني الدعم الجماهيري الكامل، بأي حال من الأحوال. حتى “السعة” هنا نسبية؛ لأن التاريخ لا يُصنَع بالتوافق الكامل بين الجميع وإنما عن طريق بناء كتلة حرجة مصمّمة على التغيير بالفكر والقول والعمل، ثم تمضي في الشوط لآخره — إما نجحت أو هلكت دون مرادها. وهي حين تنجح فإن المجتمع عموما يتقدم معها، ويدفع معه الجميع، بما فيه القوى الرجعية، للأمام دفعا لا “تحنيسا”. في شأن ذلك قيل “لا تشكّوا في قدرة مجموعة صغيرة من الناس، ملتزمة ومنظّمة، على تغيير العالم. على التحقيق، ذلك ما يحدث عادة.”
ومع الدعم الجماهيري الواسع تظهر صنوف ممتازة من بطولات الشعوب، وشكيمتها في وجه من يقف أمام إرادتها. توفّر تلك السير البطولية، الممهورة بالتضحيات، مادة خصبة لحرث وحصاد ثقافة جديدة، تضاف لثقافة الشعب المحلية وذاكرته الجمعية وذخرها المعنوي، قوامها أدب الثورة وقصصها—أساطيرها الرومانسية الماتعة.
تأملات في تخلقات الثورة الشعبية
في هذا القسم الأخير من المقالة سنتناول بإيجاز موضوعين بسيطين حول تخلقات الثورة الشعبية (مع السودان كحالة كذلك)، هما مسألة الفرق بين الحشد والتنظيم، ومسألة جموع الشعب التي تبقى متعاطفة نسبيا مع النظام القاهر وإن لم ينتموا له.
إحدى تخلقات الثورة الشعبية السودانية أنها أبرزت الفرق الفلكي بين الحشد والتنظيم، وأنه لا بديل عن التنظيم من أجل عمل جماعي مستدام ومسؤول، وتحديدا يجب التمييز بين الحشد ومحدودياته في مقابل التنظيم وقدراته. كان كوامي توري، الناشط السياسي المنتظم في الحركة الأفروعمومية، يقول دوما إن الجماعات المضطهدة والمهمشة، في أي مكان في العالم، لا يمكنها خدمة قضاياها بصورة فعالة إلا عن طريق العمل التنظيمي. ذلك العمل التنظيمي لا يعني الأحزاب بالضرورة وإنما يشملها (ومنها أيضا النقابات والهيئات الشعبية وبعض منظمات المجتمع المدني، وحتى الحركات المسلحة)، فجميع الحركات والمنظمات ذات الأجندة المتماسكة والهيكل التنظيمي القادر على إصدار قرارات وتفعيلها وتعهدها لفترة مستدامة وبأدوات موضوعية، هي تنظيمات.
الحشد، في الجانب الآخر، ليس كذلك، فالحشد عادة ما يستثمر إحباطات أو غضب الجماعات كيما يتبلور في حدث معيّن أو أحداث محدودة – مظاهرة، مسيرة، حملة، اعتصام عام، إلخ – لها في الغالب مطالب محدودة تسعى لدفعها، أو أحيانا لديها تطلعات عامة تريد التعبير عنها ولكنها لا تملك أجندة وهياكل لتنفيذها. عمليات الحشد ليست سهلة في الواقع، فهي تستنفد طاقة كبيرة، وكثيرا ما يتصدى لذلك المجهود أناس أصحاب همّة وحماس وقدرة على فنون الحشد. وبعض مظاهر الحشد تفلح في إيصال رسائل قوية كما تجد تغطية إعلامية كبيرة في العادة، كونها طفرات على الواقع اليومي الرتيب.
لكن إذا نظرنا لتاريخ حالات التغيير في المجتمعات الحديثة، في عموم العالم، سنجد أن التغييرات الحقيقية، المستدامة، كانت وما زالت وراءها تنظيمات وليست حشود. هذا علاوة على أن التنظيمات يمكنها استعمال الحشود في بعض تكتيكاتها ولكن العكس غير صحيح عموما. في أمريكا الشمالية مثلا فقد حققت حركة الحقوق المدنية وحزب الفهود السود وحركة “أمة الإسلام” من الآثار والمكاسب المحسوسة أضعاف ما حققته الاعتراضات العامة والمظاهرات والحشود الطلابية التي لم تقف وراءها تنظيمات مستدامة وإنما لجان حشد مؤقتة. في العالم الثالث تحدث تغييرات محسوسة ومكاسب مستدامة أيضا عندما تكون هنالك تنظيمات واقفة وراء العمل الجماعي، وهذا أمر يمتد منذ حركات التحرر الوطني، في افريقيا وعموم العالم، إلى اليوم. عدا ذلك فإن أي مكاسب يمكن أن تحرزها حشود هي إما لا تكون مستدامة أو واضحة أو يتم اختطافها لاحقا ببساطة بواسطة تنظيمات بأجندة غير مشابهة لتلك الحشود (كما فعل الاخوان المسلمون مثلا مع ثورة المصريين ضد نظام المؤسسة العسكرية برئاسة حسني مبارك، وكما فعل الجيش المصري مرة أخرى مع انتفاضة نفس المصريين ضد حكومة الاخوان المسلمين). أحيانا هنالك تغييرات تاريخية تبدو كأنها منجزات حشود بالدرجة الأولى (مثل ثورة أكتوبر 1964 في السودان) لكن المآلات هنا أحد ثلاثة في الغالب: إما بدأت الحشود ثم لحقت بها تنظيمات أدارت دفّتها نحو بر الأمان وتحقيق المطالب بصورة مستقرة، أو كانت التنظيمات فاعلة في عمليات الحشد من البداية فاستطاعت توجيهها بصورة معقولة (حتى لو تكن مديرة لها بصورة كاملة)، أو تم تحقيق مطالب تلك الحشود ولكن لفترة بسيطة لم تلبث أن انتكست مع غياب عرّابين وتنظيمات لها (أو ما يمكن تسميتهم بالقيادات والبرامج).
ذلك فيما يخص مسألة الحشد والتنظيم؛ وأما فيما يخص جموع الشعب التي تبقى متعاطفة مع نظام الحكم الذي فقد عمليا جميع مبررات وجوده، فلعل كل فرد منّا، في السودان، يعرف أناسا كهؤلاء، في دائرة معارفنا الشخصية، غير قادرين أن يقولوا في حق الهبّات الشعبية كلمة انحياز كاملة للشعب، ولا قادرين أن يعربوا عن معارضتهم للطغاة بكلمات واضحة، ويلبسون لبوس الموضوعية والعقلانية بدون إيفاء حقها، لكنهم ليسوا أعضاء في تركيبة السلطة الحاضرة ولا مستفيدين منها بشكل متميّز عن بقية المواطنين العاديين من ذوي الامتيازات المتوسطة. هؤلاء النفر في غالب أمرهم أحد اثنين (أو الاثنين معا):
(1) غير قادرين على قبول أن يكونوا في خندق واحد مع جموع يرون أنها نظريا، بالنسبة لهم، أسوأ من النظام الحاكم، ويصعب عليهم التوافق معهم ولو في مسألة واحدة عامة فقط هي أهمية اقتلاع النظام القائم وإقامة نظام أكثر عدالة وكرامة للجميع (مثلا، في السودان، بعض الأشخاص المحافظين لا يريدون التحالف مع اليساريين، ولو على برنامج حد أدنى من أجل مصلحة الجميع). غير قادرين على قبول ذلك لأسباب قد تكون شخصية أو تاريخية عامة، لكنها في نهاية الأمر أسباب غير موضوعية أو عقلانية فعلا، بل مبنية على ترسّبات في الوعي (تظهر بين الفينة والأخرى) مفادها في النهاية أن الحاكم الذي يحمل راية التقليد العريق و/أو راية الدين – ولو كان في واقع الأمر أبعد الناس عن وصايا الدين ومقاصده – أفضل ممن يتبنى الخروج عن التقليد و/أو فصل الدين عن الدولة. باختصار هي مسألة عقلية محافظة جدا أو هوس ديني كامن غير قادر على الإفصاح عن رجعيّته علنا.
(2) أصحاب نزعات فاشية. وهؤلاء وصل بهم ميولهم وتفكيرهم السياسي والاجتماعي العام إلى خلاصات فاشية، وإن لم يكونوا في السلطة. وكما قلنا في مكان آخر “أصحاب المذهبيات المتنوّعة التي تميل عموما إلى خلط سكونيات الحداثة (أي مظاهر الحداثة المادية الصرفة وتفاعلاتها، كالدولة الهرمية وترسانتها العسكرية والإعلامية وقواعدها الحدودية وآليات إدارة الاقتصاد والتدريب المهني) مع ديناميكيات الرؤى السياسية والثقافية الرجعية (كالتعصب القومي أو التحجّر الديني أو الاستعلاء النوعي/الجندري أو العنصرية أو الديماغوجيا، أو هؤلاء مجتمعين)، يمكن وصف أصحاب هذه المذهبيات بأنهم ذوو نزعات فاشية.” هؤلاء قد لا يكونوا محافظين أو رجعيين بالضرورة (وقد يكونوا) لكنهم يؤمنون بأن السلطة وممارستها في السياسة والاجتماع تقتضي بالضرورة القهر والإقصاء، ثم هم متصالحون مع هذا المنظور. هؤلاء أكثر عددا مما يتخيل الناس عموما، ويظهرون في كل مجتمع في أزمان الأزمات والاختلالات والتحولات الكبيرة، (كما أظهر كارل بولاني في دراسته للحركات الفاشية في أوروبا).
هؤلاء المذكورون أعلاه ينبغي الحذر منهم، رغم عدم تجريمهم أو استعدائهم بالضرورة (فهم عمليّا لم يقترفوا جرما ملموسا بحق الناس، بل بعضهم حسن السيرة والسلوك عموما في الجانب الشخصي وإن بدا ضعفه الفكري والأخلاقي في ما يخص القضايا العامة، ولا يظهرون حقيقة فاشيّتهم أو هوسهم إلا في حالات حيازتهم وممارستهم لسلطة واضحة، في الأسرة أو في بيئة العمل مثلا). هم في أحسن أحوالهم رصيد كامن للقوى الرجعية في أي مجتمع، ومثبّطون لمسيرة التقدّم في مجتمعاتهم عبر عموم التاريخ، لأنهم في كل مجتمع وسياق تاريخي يشدّون نحو الخلف في حين يحاول الثوّار والتقدميون الشد نحو الأمام (وبهذا المعنى فهم اليوم، في سياق السودان، أقرب مثلا لوثنيّي قريش في زمان البعثة النبوية، وإن ظنّوا اليوم أنهم أقرب للمسلمين الأوائل، لأن المسلمين الأوائل كانوا ثوّارا على الأوضاع الراهنة وكاسرين لقيود وأعراف ونُظُم زمانهم، في سبيل تشكيل نُظُم جديدة أقرب للحق والجمال، في حين هؤلاء اليوم معادون لخط الثورة والتقدّم ويريدون المحافظة على الحاضر أو حتى العودة به للوراء أكثر).
التصرف الصحيح العام بخصوص هؤلاء هو تقليل تأثيرهم على الحراك العام، وذلك بأن لا يُعطَوا أكثر من وزنهم في حياتنا وفي خضم العمل العام. ذلك يعني تقليل الانشغال بهم – بدون استعداءٍ أو يأسٍ تام – وزيادة الانشغال برتق نسيج القوى الثائرة من فئات الشعب – وهي القوى رصيد الكتلة الحرجة للتغيير – والعمل معا لتغيير الواقع رغم أنف كل القوى الرجعية. إذن المطلوب هو “حماية حقيقة الثورة” أكثر من الانشغال بظنون من لا ينضم لها. وهذه قاعدة تاريخية اجتماعية عالمية، لدينا بخصوصها أثر في ثقافاتنا التي تراكمت حكمتها عبر الأزمان. على سبيل المثال يقول ابن عطاء الله السكندري “ما غادر من الجهل شيئا من ترك يقين ما عنده إلى ظن ما عند الناس.” أيضا يقول بيت الشعر القديم:
إنّا إذا عضّ الثـِّـقاف برأس صَعْدَتِنا لَوَيْنا
نحمي حقيقتنا، وبعضُ الناس يسقط بيْنَ بَيْنا
خُوَيْتمة
وأخيرا… هذه المقالة، بالنسبة لكاتبها، لا تخلو من استباقات، مُعتصَرة من قراءة عامة للأحداث، رغم ان كاتبها يميل لتجنب الكتابة المسهبة عن الأحداث بينما الأحداث ما زالت تتخلق، إذ ذلك دور الكُتّاب الصفحيين، أو كاتبي الخطابات الحشدية، وكاتب هذه السطور لا يجيد أيّا من الصنعتين أو يحسب أنه قد يجيدها يوما. الكتابة النقدية التاريخية أفضل عادةً بعد انقضاء الحدث، إذ يصعب استبانة الأمور ومآلاتها بوضوح كافي أثناء تخلق الأحداث. لكن، وكما قيل، للقواعد العامة استثناءاتها.
قصي همرور
(نشر في مدونة سرادق، في 28 يناير 2019)
لي شرف اول تعليق علي مقال في موقعك الالكتروني الخاص
ومباركات يا صديق